الأحد، 6 يوليو 2008

الموت حقيقته وما يحدث يوم القيامه ؟؟؟؟؟



التحذير من الاغترار بالدنيا
قال الله تعالى: )يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلهِكُم أَموَلُكُم وَلاَ أَولاَدُكُم عَن ذِكْرِ الله وَمَن يَفعَلْ ذَلِكَ فَأْوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ. وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقنَكُم مِّن قَبلِ أَن يَأْتِي أَحَدَكُمُ المَوتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَو لاَ أَخَّرتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ الصَّالِحِينَ. وَلَن يُؤَخِّرَ الله نَفساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَالله خَبِيرُ بِمَا تَعْمَلُونَ(.وفي كتاب الترمذي قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أكثروا ذكر هازم اللذات الموت".وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده" وفي رواية مسلم: "يبيت ثلاث ليال" قال ابن عمر رضي الله عنهما ما مرت عليَّ ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك إلا وعندي وصيتي.وفي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي وقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وعدّ نفسك من أصحاب القبور" أي لا تركننّ إليها ولا تتخذها وطناً ولا تحدث نفسك بطول البقاء فيها ولا بالاعتناء بها ولا تتعلق منها بما لا يتعلق به الغريب في غير وطنه. لا تشتغل فيها به الغريب الذي يريد الذهاب إلى أهله، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك.وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اثنتان يكرهما ابن آدم يكره الموت والموت خير للمؤمن من الفتنة ويكره قلة المال وقلة المال أقل الحساب".وقال حاتم الأصم: لكل شيء زينة وزينة العبادة الخوف وعلامة الخوف قصر الأمل.وقيل للحسن ألا تغسل قميصك فقال الأمر أعجل من ذلك.أعلم أنه يسن لكل واحد من المكلَّفين إكثار ذكر الموت وينبغي أن يستعد له بالتوبة إلى الله تعالى ورد المظالم والمريض أكد لأنه يرق به قلبه ويخاف فيرجع عن المظالم ويقبل على الطاعات.واعلم أن بني آدم طائفتان طائفة نظروا إلى شاهد خيال الدنيا وتمسكوا بتأميل العمر الطويل ولم يتفكروا في النفس الأخير، وطائفة عقلاء جعلوا النفس الأخير نصب أعينهم لينظروا ماذا يكون مصيرهم، وكيف يخرجون من الدنيا ويفارقونها وإيمانهم سالم وما الذي ينزل معهم من الدنيا في قبورهم وما الذي يتركونه لأعدائهم ويبقى عليهم وباله ونكاله وهذه الفكرة واجبة على كافة الخلق وهي على الملوك وأهل الدنيا أوجب لأنهم كثيراً ما أزعجوا قلوب الخلق وأدخلوا في قلوبهم الرعب فإن الحقِّ تعالى ذكره ملاكاً يعرف بملك الموت لا مهرب لأحد من مطالبته ونشبته وكل موكلي الملوك يأخذون جعلهم ذهباً وطعاماً، وهذا الوكيل لا يأخذ سوى الروح جعلاً وسائر موكلي السلاطين تنفع عندهم الشفاعة وهذا الموكل لا تنفع عنده شفاعة شافع وجميع الموكلين يمهلون من يوكلون به اليوم والساعة وهذا الموكل لا يهمل نفساً واحداً.
ويروى أنه كان ملك كثير المال قد جمع مالاً عظيماً واحتشد من كل نوع خلقه الله تعالى من متاع الدنيا ليرفه نفسه ويتفرغ لأكل ما جمعه، فجمع نعماً طائلة وبنى قصراً عالياً مرتفعاً سامياً يصلح للملوك والأمراء والأكابر والعظماء وركَّب عليه بابين محكمين وأقام عليه الغلمان والأجلاد والحرسة والأجناد والبوابين كما أراد وأمر بعض الأنام أن يصطنع له من أطيب الطعام وجمع أهله وحشمه وأصحابه وخدمه ليأكلوا عنده وينالوا رفده، وجلس على سرير مملكته واتكأ على وسادته وقال يا نفس قد جمعت أنعم الدنيا بأسرها فالآن أفرغي لذلك وكلي هذه النعم مهنأة بالعمر الطويل، والحظ الجزيل، فلم يفرغ مما حدث نفسه حتى أتى رجل من ظاهر القصر عليه ثياب خلقة ومخلاته في عنقه معلقة على هيئة سائل يسأل الطعام فجاء وطرق حلقة الباب طرقة عظيمة هائلة بحيث تزلزل القصر وتزعزع السرير وخاف الغلمان ووثبوا إلى الباب وصاحوا بالطارق وقالوا يا ضيف ما هذا الحرص وسوء الأدب اصب إلى أن نأكل ونعطيك مما يفضل، فقال لهم قولوا لصاحبكم أن يخرج إليّ فلي إليه شغل مهم وأمر ملم فقالوا له تنح أيها الضيف من أنت حتى نأمر صاحبنا بالخروج إليك، فقال: أنتم عرِّفوه ما ذكرت لكم فلما عرَّفوه قال هلا نهرتموه وجرتم عليه وزجرتموه ثم طرق حلقة الباب أعظم من طرقته الأولى فنهضوا من أماكنهم بالعصي والسلاح وقصدوه ليحاربوه فصاح بهم صيحة وقال: ألزموا أماكنكم فأنا ملك الموت وطاشت حلومهم وارتعدت فرائضهم وبطلت عن الحركة جوارحهم فقال الملك قولوا له ليأخذ بدلاً مني وعوضاً عني فقال ما آخذ إلا روحك ولا أتيت إلا لأجلك لأفرق بينك وبين النعم التي جمعتها والأموال التي حويتها وخزنتها فتنفس الصعداء وقال لعن الله هذا المال الذي غرني وأبعدني ومنعني من عبادة ربي وكنت أظن أنه ينفعني فاليوم صار حسرتي وبلائي وخرجت صفر اليدين منه وبقي لأعدائي فأنطق الله تعالى المال حتى قال لأي سبب تلعنني العن نفسك فإن الله تعالى خلقني وإياك من تراب وجعلني في يدك لتتزود بي إلى آخرتك وتتصدق بي على الفقراء وتزكي بي على الضعفاء ولتعمر بي الربط والمساجد والجسور والقناطر لأكون عوناً لك في اليوم الآخر جمعتني وخزنتني وفي هواك أنفقتني ولم تشكر حقي بل كفرتني فالآن تركتني لأعدائك وأنت بحسرتك وبلائك فأي ذنب لي فتسبني وتلعنني، ثم إن ملك الموت قبض روحه قبل أكل الطعام فسقط على سريره صريع الحمام:
الاستعداد لنزول الموت
قال الله تعالى: )حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ المَوُتُ قَالَ رَبِّ ارجِعُونِ. لَعَلّى أَعمَلُ صَلِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. فَإِذَا نُفِخَ فيِ الصَّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ( إلى آخر السورة.وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم غرز عوداً بين يديه وآخر إلى جبينه وآخر أبعد منه فقال: "أتدرون ما هذا?" قالوا: اللّه ورسوله أعلم قال: "هذا الإنسان وهذا الأجل وهذا الأمل فيتعاطى الأمل فيلحقه الأجل دون الأمل".وروي عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل وهو يعظه: "اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك" وكتب الإمام أبو حامد الغزالي إلى الشيخ أبي الفتح بن سلامة " قرع سمعي بأنك تلتمس مني كلاماً وجيزاً في معرض النصح والوعظ وإني لست أرى نفسي أهلا له فإن الوعظ زكاة نصابها الاتعاظ فمن لا نصاب له كيف يخرج الزكاة وفاقد النور كيف يستنير به غيره ومتى يستقيم الظل والعود أعوج".
وقد أوصى الله تعالى عيسى بن مريم عليهما السلام: يا ابن مريم عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس وإلا فاستحي مني، وقال نبينا صلى الله عليه وسلم: "تركت فيكم ناطقاً وصامتاً" فالناطق هو القرآن والصامت هو الموت وفيهما كفاية لكل متعظ ومن لم يتعظ بهما كيف يعظ غيره، ولقد وعظت نفسي بهما وقبلت وصدقت قولاً وعملاً وأبت وتمردت تحقيقاً وفعلاً فقلت لنفسي أما أنت مصدقة بان القرآن هو الواعظ الناطق وأنه كلام اللّه المنزل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فقالت: بلى فقلت لها قد قال اللّه تعالى: )مَن كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ للدُّنيَا وَزِنَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَالاَ يُبْخَسُونَ. أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَبْسَ لَهُمْ فيِ الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ.(.فقد وعد اللّه بالنار على إرادة الدنيا وكل ما لا يصحب بعد الموت فهو من الدنيا فهل تنزهت عن حب الدنيا وإرادتها ولو أن طبيباً نصرانياً وعدك بالموت أو بالمرض على تناول ألذ الشهوات لتحاميتها واتقيت وأنفت منها، أفكان النصراني عندك أصدق من اللّه تعالى فإن كان كذلك فما أكفرك أم كان المرض أشد عليك من النار فإن كان كذلك فما أجهلك فصدقت فما انتفعت بل أصرت على الميل إلى العاجلة واستمرت ثم أقبلت عليها فوعظتها بالواعظ فقلت لها قد اخبر الناطق عن الصامت.قال الله تعالى: )قُلْ إِنَّ المَوْتَ الذَّي تَفِرُّونَ مِنْهُ مُلاَقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إلَى عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادةِ فَيُنَبِئُكُم بِما كُنتُم تَعمَلُونَ(.وقلت لها هبي أنك ملت إلى العاجلة أفلست مصدقة بأن الموت لا محالة يأتيك قاطعاً عليك ما أنت متمسكة به وسالباً منك كل ما أنت راغبة فيه وأن كل ما هو آت قريب وأن البعيد ما ليس بآت.وقد قال الله تعالى)أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْناهُمْ سِنِينَ. ثُمَّ جَاءهُم مَّا كانُواْ يُوعَدُونَ. ما أَغْنَى عَنْهُم مَّا كانُوْا يُمَتَّعُوَن(.فكأنك مخرجة بهذا الوعظ عن جميع ما أنت فيه قالت صدقت فكان منها قولاً لا يحصل وراءه ولم تجتهد قط في تزود الآخرة كاجتهادها في تدبير العاجلة ولم تجتهد في رضى الله تعالى كاجتهادها في طلب رضاها وطلب رضى الخلق ولم تستحي من الله تعالى كما تستحي من واحد من الخلق ولم تشمر لاستعداد الآخرة كتشميرها في الصيف لأجل الشتاء وفي الشتاء لأجل الصيف فإنها لا تطمئن في أوائل الشتاء ما لم تتفرغ عن جميع ما تحتاج إليه فيه مع إن الموت ربما يخطفها والشتاء لا يدركها والآخرة عندها يقين فلا يتصور أن تختطف منها، فقلت لها ألست تستعدين للصيف بمقدار طوله وتصنعين آلة الصيف بقدر صبرك على الحر قالت نعم قلت فاعصي الله بقدر صبرك على النار واستعدي للآخرة بقدر بقائك فيها فقالت هذا هو الواجب الذي لا يرخص في تركه إلا الحمق ثم استمرت على سجيتها ووجدتني كما قال بعض الحكماء في الناس من ينزجر نصفه ثم لا ينزجر نصفه الآخر وما أراني إلا منهم ولما رأيتها متمادية في الطغيان غير منتفعة بمواعظ الموت والقرآن رأيت أهم الأمور التفتيش عن سبب تماديها مع اعترافها وتصديقها فإن ذلك من العجائب العظيمة فطال تفتيشي عنه حتى وقفت على سببه وها أنا موص نفسي وإياك بالحذر منه هو الداء العظيم وهو السبب الداعي إلى الغرور والإهمال وهو اعتقاد تراخي الموت واستبعاد هجومه على القرب فإنه لو أخبر صادق في بياض نهاره أنه يموت في ليله أو يموت إلى أسبوع أو شهر لاستقام على الصراط المستقيم وترك جميع ما هو فيه مما يظن أنه يتعاطاه لله تعالى وهو فيه مغرور فضلاً عما ليس لله تعالى فانكشف لي تحقيقاً أن من أصبح وهو يؤمل أنه يمسي أو أمسى وهو يؤمل أنه يصبح لم يخل من الفتور والتسويف ولم يقدر إلا على سير ضعيف.
فأوصيك ونفسي بما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: "صل صلاة مودع" ولقد أوتي جوامع الكلم وفصل الخطاب ولا ينتفع بوعظ إلا به ومن غلب على ظنه في كل صلاة أنها آخر صلاته حضر معه خوفه من الله تعالى وخشيته منه ومن لم يخطر بمخاطره قصر عمره وقرب أجله وغفل قلبه عن صلاته وسئمت نفسه فلا يزال في غفلة دائمة وفتور مستمر وتسويف متتابع إلى أن يدركه الموت ويهلكه حسرة الفوت وأنا مقترح عليه أن يسأل الله تعالى أن يرزقني هذه الرتبة فإني طالب لها وقاصر عنها وأوصيه أن لا يرضى من نفسه إلا بها وأن يحذر مواقع الغرور فيها ويحترز من خداع النفس فإن خداعها لا يقف عليه إلا الأكياس وقليل ما هم والوصايا وإن كانت كثيرة والمذكورات وإن كانت كبيرة فوصية الله أكملها وأنفعها وأجمعها وقد قال الله عزِ وجلّ في محكم القرآن) وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الكِتابَ مِن قَبْلِكُمْ وإيَّاكُمْ أَنِ اتَّقوُا الله(.فما أسعد من قبل وصية الله تعالى وعمل بها وادخرها لنفسه ليجدها يوم مردها ومنقلبها وقال يزيد الرقاشي كان في بني إسرائيل جبار من الجبابرة وكان في بعض الأيام جالساً على سرير مملكته فرأى رجلا قد دخل من باب الدار ذا صورة منكرة وهيئة هائلة فاشتد خوفه من هجومه وهيئته وقدومه فوثب في وجهه وقال له: "من أنت أيها الرجل ومن أذن لك في الدخول إلى داري فقال أذن لي صاحب الدار وأنا الذي لا يحجبني حاجب ولا أحتاج في دخولي على الملوك إلى إذن ولا أرهب سياسة السلطان ولا يفزعني جبار ولا أحد من قبضتي فرار فلما سمع هذا الكلام خر على وجهه ووقعت الرعدة في جسده وقال: أنت ملك الموت قال: نعم قال أقسم عليك باللّه إلا أمهلتني يوماً واحداً لأتوب من ذنبي وأطلب العذر من ربي وأرد الأموال التي أودعتها خزائني إلى أربابها ولا أتحمل مشقة عذابها، فقال كيف أمهلك وأيام عمرك وأيام عمرك محسوبة وأوقاتها مثبتة مكتوبة فقال أمهلني ساعة، فقال إن الساعات في الحساب وقد عبرت وأنت غافل وانقضت وأنت ذاهل وقد استوفيت أنفاسك ولم يبق لك نفس واحد، فقال من يكون عندي إذا نقلتني إلى لحدي فقال لا يكون عندك سوى عملك فقال ما لي عمل? فقال لا جرم يكون مقيلك في النار ومصيرك إلى غضب الجبار" وقبض روحه، فخر عن سريره وعلا الضجيج من أهل مملكته وارتفع ولو عملوا ما يصير إليه من سخط ربه لكان بكاؤهم عليه أكثر وعويلهم أوفر.
ذم طول الأمل
قال اللّه تعالى: )أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوَاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله وَمَا نَزَلَ مِنَ اْلحَقِّ وَلاَ يَكُونُواْ كَالَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (
وعن أبي بن كعب رضي اللّه عنه قال: كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ثلث الليل قام فقال: "يا أيها الناس اذكروا اللّه جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه"، وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : كان يهريق الماء فيتيمم بالتراب فأقول يا رسول اللّه إن الماء منك قريب فيقول "ما يدريني لعلي لا أبلغه"، وعن أنس قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يهرم ابن آدم ويشب فيه اثنتان الحرص على المال والحرص على العمر" وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : "مثل ابن آدم إلى جنبه تسع وتسعون منية إن أخطأته المنايا وقع في الهرم". وروي أن الحسن قيل له أن فلاناً مات بغتة فقال ما يعجبكم من ذلك لو لم يمت بغتة مرض بغتة ثم مات. قال الغزالي رحمة اللّه عليه "عليك أن تجتنب طول أملك فإنه إذا طال هاج أربعة أشياء:
الأول ترك الطاعة والكسل فيها يقول سوف أفعل والأيام بين يدي.
والثاني ترك التوبة وتسويفها يقول سوف أتوب وفي الأيام سعة وأنا شاب وسني قليل والتوبة بين يدي وأنا قادر عليها متى رمتها وربما اغتاله الحمام على الإصرار واختطف الأجل صلاح العمل.
والثالث الحرص على جمع الأموال والاشتغال بالدنيا عن الآخرة يقول أخاف الفقر في الكبر وربما أضعف عن الاكتساب ولا بد لي من شيء فاضل أدخره لمرض أو هرم أو فقر هذا ونحوه يحرك إلى الرغبة في الدنيا والحرص عليها والاهتمام للرزق تقول إيش آكل وإيش ألبس هذا الشتاء وهذا الصيف ومالي شيء، ولعل العمر يطول فأحتاج والحاجة مع الشيب شديدة ولا بد لي من قوت وغنية عن الناس وهذه وأمثالها تحرك إلى طلب الدنيا والرغبة فيها والجمع لها والمنع لما عندك منها.
والرابع القسوة في القلب والنسيان للآخرة لأنك إذا أملت العيش الطويل لا تذكر الموت والقبر".وعن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه "أخوف ما أخاف عليكم اثنان:طول الأمل واتباع الهوى ألا إن طول الأمل ينسي الآخرة واتباع الهوى يصدك عن الحق فإذن يصير فكرك في حديث الدنيا وأسباب العيش في صحبة الخلق نحوها فيقسو القلب فبسبب طول الأمل تقل الطاعة وتتأخر التوبة وتكثر المعصية ويشتد الحرص ويقسو القلب وتعظم الغفلة فتذهب والعياذ باللّه إن لم يرحم اللّه فأي حال أسوأ من هذه وأي آفة أعظم من هذه، وإنما رقة القلب وصفوته بذكر الموت ومفاجأته والقبر والثواب والعقاب وأحوال الآخرة".ويروى إن ذا القرنين اجتاز بقوم لا يملكون شيئاً من أسباب الدنيا وقد حفروا قبور موتاهم على باب دورهم وهم في كل وقت يتعهدون تلك القبور وينظفونها ويزورونها ويتعبدون اللّه تعالى بينها وما لهم طعام إلا الحشيش ونبات الأرض، فبعث إليهم ذو القرنين رجلاً يستدعي ملكهم فلم يجبه، وقال ما لي إليه حاجة فجاء ذو القرنين إليه وقال كيف حالكم فأني لا أرى شيئاً من ذهب ولا فضة ولا أرى عندكم شيئاً من نعم الدنيا فقال نعم لأن الدنيا لا يشبع منها أحد قط فقال لم حفرتم القبور على أبوابكم فقال لتكون نصب أعيننا فالنظر إليها يتجدد ذكر الموت ويبرد حب الدنيا في قلوبنا فلا نشتغل بها عن عبادة ربنا فقال كيف تأكلون الحشيش فقال لأنا نكره أن نجعل بطوننا مقابر للحيوان ولأن لذة الطعام لا تتجاوز الحلق، ثم مد يده فأخرج منها قحف رأس آدمي فوضعه بين يديه وقال يا ذا القرنين تعلم من كان هذا، فقال: لا، قال: كان صاحب هذا القحف ملكاً من ملوك الدنيا وكان يظلم رعيته ويجور على الضعفاء ويستفرغ زمانه في جمع الدنيا فقبض اللّه روحه وجعل النار مقره وهذا رأسه ثم مد يده ووضع قحفاً آخر بين يديه وقال له أتعرف هذا فقال لا فقال كان هذا ملكاً عادلاً مشفقاً على رعيته محباً لأهل مملكته فقبض اللّه روحه وأسكنه جنته ورفع درجته، ثم وضع يده على رأس ذي القرنين وقال ترى أي هذين الرأسين يكون هذا الرأس فبكى ذو القرنين بكاء شديداً وضمه إلى صدره وقال له إن رغبت في صحبتي فإنني أسلِّم إليك وزارتي وأقاسمك مملكتي فقال هيهات ما ليفي ذلك رغبة فقال لم قال لأن جميع الخلق كلهم أعداؤك بسبب المال والمملكة وجميعهم أصدقائي بسبب القناعة والصعلكة
قصر الأمل
اعلم أن تقصير الأمل مع حب الدنيا متعذر وانتظار الموت مع الاكباب عليها غير متيسر إذا كان مملوءاً بشيء لا يكون لشيء آخر محل فيه ولأن الدنيا والآخرة كضرتين إذا أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى وكالمشرق والمغرب بقدر ما من أحدهما تبعد من الآخر.قال اللّه تعالى: )مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً(.وقال اللّه تعالى: )فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِالله آلْغَروُرُ(.وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "إن الدنيا حلوة خضرة وإن اللّه مستخلفكم فيها فينظر كيف تعلمون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل النساء". وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه" ، وعن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها" فقال رجل يا رسول اللّه أو يأتي الخير بالشر فسكت النبيُّ حتى ظننا أنه ينزل عليه فقال فمسح عنه الرحضاء وقال "أين السائل" وكأنه حمده، وقال "إنه لا يأتي الخير بالشر وأن مما ينبت الربيع يقتل أو يلم إلا أكلة الخضر أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ثم عادت فأكلت وإن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة، ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع ويكون شهيداً عليه يوم القيامة" ويعني مثال كثرة المال كمثال ما ينبت في فصل الربيع فإن بعض النبات حلوة في فم الدابة وهي حريصة على أكله لكن ربما تأكل كثيراً فيحصل بها داء من كثرة الأكل فتموت من ذلك الداء أو تقرب، فإن لم تأكل الدابة إلا بقدر ما يطيقه كرشها فتأكل وتترك الأكل حتى ينهضم ما أكلت وحتى تبول وتروث روثاً وتحصل لها خفة من خروج الروث والبول منها فلا يضرها الأكل فكذلك من يحصل له مال كثير فإن الحص على المال وتكثير الأكل والشرب والتجمل فيقسو قلبه وتتكبر نفسه ويرى نفسه أفضل من غيره ويحتقر الناس ويؤذيهم ولا يخرج حقوق المال من الزكاة وأداء الكفارات والنذور وإطعام السائلين والأضياف وحقوق الجار فمن كانت هذه صفته لا شك أن المال شر له ويبعده عن الجنة ويقربه من النار ومن أدى حقوق المال ولا يحتقر الناس ولا يفتخر عليهم ولا يشتغل بجمع المال بحيث يفوت عنه طاعة ويحسن إلى الناس فماله خير له كما قال عليه السلام: "نعم المال الصالح للرجل الصالح" فإذا عرفت هذا فقد عرفت أن الخير والشر لا يحصل للرجل من المال بل نفس الرجل التي هي تصرف المال فيما فيه خير له أو شر له، قاله المظهري وقال صلى الله عليه وسلم: "لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال"
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن اللّه تعالى يقول: ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك وإن لم تفعل ملأت يدك شغلاً ولم أسد فقرك".
وحكي أن احد الصالحين كان تقول "لكل يوم ليلة وهذه ليلتي أموت فيها فلا تنام حتى تصبح وتقول للنهار كذا فلا تنام حتى تمسي.
وقال أبو بكر بن عياش: ختمت القرآن في هذه الزاوية ثمانية عشر ألف ختمة، وصام ابن المعتمر أربعين سنة وقام ليلها، ولم يضع سليمان التيمي جنبه عشرين سنة. وصلى عبد القادر الجيلاني رحمة اللّه عليه الصبح بوضوء العشاء أربعين سنة، ولزم الغزالي الأنقطاع ووظائف أوقاته على وظائف الخير بحيث لا يمضي لحظة منها إلا في طاعة من التلاوة والتدريس والنظر في الأحاديث خصوصاً البخاري، وإدامة الصيام والتهجد ومجالسة أهل القلوب إلى أن أنتقل إلى رحمة اللّه تعالى، ولم يضع النووي رحمه اللّه جنبه على الأرض نحو سنتين وكان لا يضيع له وقتاً في ليل ولا نهار إلا في وظيفة من الأشتغال بالعلم حتى في ذهابه في الطريق ومجيئه يشتغل في التكرار والمطالعة.وحكاياتهم في المبادرة الى الخيرات كثيرة يكفي من وفقه اللّه ما ذكرنا وكل ذلك من نتيجة قصر الأمل.
اعلم أن مما يعينك على ذكر الموت :
أن تذكر من مضى من أقاربك وإخوتك وأصحابك وأترابك الذين مضوا قبلك كانوا يحرصون حرصك، ويسعون سعيك ويعملون في الدنيا عملك فقصفت المنون أعناقهم، وقلعت أعراقهم وقصمت أصلابهم، وفجعت فيهم أحبابهم فأفردوا في قبورهم موحشة وصاروا جيفاً مدهشة والأحداق سالت والألوان حالت والفصاحة زالت والرؤوس تغيرت ومالت مع فتان يقعدهم ويسألهم عما كانوا يعتقدون، ثم يكشف لهم من الجنة والنار مقعدهم إلى يوم يبعثون، فيرون أرضاً مبدلة وسماء مشققة وشمساً مكورة ونجوماً منكدرة وملائكة منزلة وأهوالاً مذعرة وصحفاً منتشرة وناراً زفرة وجنة مزخرفة فعد نفسك منهم ولا تغفل عن زاد معادك ولا تهمل نفسك سدى كالبهائم ترتع ولا تدري
)ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمونَ(.)إِذِ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ.فِي الْحَمِيِم ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ(
سكرات الموت
قال اللّه تعالى: )كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ(.وقال تعالى: )وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ(.روي البخاري في صحيحه أن عائشة رضي اللّه عنها قالت: "إن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان بين يديه علبة فيها ماء فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه ويقول لا إله إلا اللّه إن للموت لسكرات ثم نصب يديه فجعل يقول إلى الرفيق الأعلى حتى قبض" وفي صحيحه: "لما ثقل صلى الله عليه وسلم جعل يتغشاه الكرب فجعلت فاطمة رضي اللّه عنها تقول واكرب أبتاه فقال صلى الله عليه وسلم "لا كرب على أبيك بعد اليوم" ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على مريض فقال "إني لأعلم ما يلقى ما فيه عرق إلا وهو يألم بالموت على حدته". ويروى عن مكحول عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "لو أن شعرة من شعرات الميت وقعت على أهل السماوات والأرض لماتوا بأذن اللّه تعالى" وقال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه يا كعب حدثنا عن الموت فقال نعم يا أمير المؤمنين "هو كغصن كثير الشوك أدخل في جوف رجل فأخذت كل شوكة بعرق ثم جذبه رجل شديد الجذب فأخذ ما أخذ وأبقى ما أبقى" وكان علي رضي اللّه عنه يحض على القتال في سبيل اللّه ويقول "إن لم تقتلوا تموتوا والذي نفس محمد بيده لألف ضربة بالسيف أهون من موت على فراش". وقال شداد بن أوس: الموت أفظع هول في الدنيا والآخرة على المؤمن وهو أشد من نشر بالمنشير وقرض بالمقاريض وغلي في القدور ولو أن الميت نشر فأخبر أهل الدنيا بألم الموت ما انتفعوا بعيش ولا التذوا بنوم، ويروى أن إبراهيم صلوات اللّه عليه وسلامه لما مات قال اللّه عز وجل له "كيف وجدت الموت" قال كسفود جعل في صوف رطب ثم جذب فقال: "أما إنا قد هونا عليك".
وعن موسى صلوات اللّه عليه أنه لما صارت روحه إلى اللّه عز وجل قال له "يا موسى كيف وجدت الموت" قال: وجدت نفسي كشاة حية بيد القصاب تسلخ.
وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن جابر رضي اللّه عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج فإنهم كانت فيهم أعاجيب" ثم أنشأ يحدث قال "خرجت طائفة فأتوا مقبرة من مقابرهم فقالوا لو صلينا ركعتين ودعونا اللّه يخرج لنا بعض الأموات يخبرنا عن الموت، قال: ففعلوا فبينما هم كذلك إذ أطلع رجل رأسه من قبر تلاشى بين عينيه أثر السجود فقال: يا هؤلاء ما أردتم إلي فواللّه لقد مت منذ مائة سنة فما سكنت عني حرارة الموت حتى الآن فادعوا اللّه أن يعيدني كما كنتُ وكأن عمرو بن العاص رضي اللّه عنه يقول لوددت لو أني رأيت رجلاً لبيباً حازماً قد نزل به الموت فيخبرني عن الموت فلما أنزل به الموت قيل له يا أبا عبد اللّه كنت تقول أيام حياتك لوددت أني رأيت رجلاً لبيباً حازماً قد نزل به الموت يخبرني عن الموت وأنت ذلك الرجل اللبيب الحازم وقد نزل بك الموت فأخبرنا عنه. فقال: أجد كأن السماوات انطبقن على الأرض وأنا بينهما وكأن نفسي تخرج على ثقب إبرة".ويروى أن إبراهيم الخليل قال لملك الموت هل تستطيع أن تريني الصورة التي تقبض فيها روح الفاجر? قال أتطيق ذلك? قال بلى فأعرض ثم التفت فإذا هو رجل أسود الثياب قاتم الشعر منتن الريح يخرج من فيه ومناخره لهب النار والدخان فغشى على إبراهيم ثم أفاق وقد عاد ملك الموت إلى صورته الأولى فقال يا ملك الموت لو لم يلق الفاجر إلا صورة وجهك لكان ذلك حسبه.وروى عن أسلم مولى عمر بن الخطاب رضي اللّه عنهما قال: إذا بقي على المؤمن من ذنوبه شيء لم يبلغه عمله شدد عليه الموت ليبلغ بسكرات الموت وشدته درجته في الجنة وإن الكافر إذا كان عمله معروفاً في الدنيا هون عليه الموت ليستكمل ثواب معروفه في الدنيا ثم يصير إلى النار.وروي البخاري أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه قال: "لو أن لي طلاع الأرض ذهباً لافتديت به من قبل أن أراه". وقيل لم يلق ابن آدم أشد من الموت وما بعده أشد منه.وفي الوسيط للواحدي بإسناده عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : "الأمراض والأوجاع كلها بريد الموت ورسل الموت فإذا حان الأجل أتى ملك الموت بنفسه وقال أيها العبد كم خبر بعد وكم رسول بعد رسول وكم بريد بعد بريد أنا الخبر ليس بعدي خبر وأنا الرسول ليس بعدي رسول أجب ربك طائعاً أو مكروهاً فإذا قبض روحه وتصارخوا عليه قال على من تصرخون وعلى من تبكون? فواللّه ما ظلمت له أجلاً ولا أكلت له رزقاً بل دعاه ربه فليبك الباكي على نفسه فإن لي فيكم عودات وعودات حتى لا أبقي منكم أحداً".
وعن أنس بن مالك قال: "لقي جبريل ملك الموت بنهر فارس فقال يا ملك الموت كيف تستطيع قبض الأنفس عند الوباء هاهنا عشرة آلاف وهاهنا كذا وكذا? فقال ملك الموت تزوى لي الأرض حتى كأنهم بين فخذي فألتقطهم بيدي".اعلم لو أنا انتظرنا ضربة شرطي لتكدر عيشنا وفي نفس يمكن مجيء الموت بشدائده وهو أمر من ضرب بالسيوف ونشر بالمناشير ويود لو قدر على صياح وأنين ويجذب روحه من كل عضد وعرق فتبرد قدماه، ثم فخذاه وهكذا حتى يبلغ الحلقوم فعنده ينقطع نظره إلى دنياه ويغلق عنه باب توبته فقد قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "إن اللّه تعالى يقبل توبة عبده ما لم يغرغر".
عذاب القبر للكفار وبعض عصاة المؤمنين
قال اللّه سبحانه وتعالى: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُوْمُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوَاْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ).
وفي كتاب الترمذي كان عثمان بن عفان رضي اللّه عنه إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته فقيل له تذكر الجنة والنار ولا تبكي وتبكي من هذا? فقال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: القبر أول منزل من منازل الآخرة فأن نجا منه صاحبه فما بعده أيسر منه وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه". وسمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: "ما رأيت منظراً قط إلا والقبر أفظع منه". وفي كتاب أبي داود والنسائي عن البراء بن عازب عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: يأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك فيقول ربي اللّه فيقولان له ما دينك فيقول ديني الإسلام فيقولان له ما هذا الرجل الذي بعث فيكم فيقول هو رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فيقولان وما يدريك فيقول قرأت كتاب اللّه فآمنت به وصدقت فذلك قوله تعالى: )يُثَبِّتُ الله الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ(.قال فينادي مناد من السماء أن صدق عندي فافرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له باباً إلى الجنة فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له فيها مد بصره.وأما الكافر فذكر موته قال ويعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان من ربك فيقول هاه هاه لا أدري فيقولان ما دينك? فيقول هاه هاه لا أدري فيقولان ما هذا الرجل الذي بعث فيكم فيقول هاه هاه لا أدري فينادي مناد من السماء أن كذب فافرشوه من النار وألبسوه من النار وافتحوا له باباً إلى النار قال فيأتيه من حرها وسمومها قال ويضيق عليه قبره حتى تختلف عليه أضلاعه ثم يقبض له أعمى أصم معه مرزبة من حديد لو ضرب بها جبلاً لصار تراباً فيضربه بها ضربة يسمعها ما بين المشرق والمغرب إلا الثقلين فيصير تراباً ثم يعاد فيه الروح.وفي كتاب الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال دخل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لصلاة فرأى ناساً كأنهم يكثرون قال: أما إنكم لو أكثرتم ذكر هازم اللذات لشغلكم عما أرى فأكثروا ذكر هازم اللذات الموت فإنه لم يأتِ على القبر يوم إلا تكلم فيه فيقول أنا بيت الغربة وأنا بيت الوحدة وأنا بيت التراب وأنا بيت الدود فإذا دفن العبد المؤمن قال له القبر مرحباً وأهلاً أما إن كنت لأحب من يمشي على ظهري إلي فإذا وليتك وصرت إلي فسترى صنعي بك قال فيتسع له مد بصره ويفتح له باب من الجنة.وإذا دفن العبد الفاجر أو الكافر قال له القبر لا مرحباً ولا أهلاً أما إن كنت لأبغض من يمشي على ظهري إلي فإذا وليتك اليوم صرت إلي فسترى صنعي بك قال فليتم عليه حتى يلتقي عليه وتختلف أضلاعه. قال وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بأصابعه فأدخل بعضها في جوف بعض قال ويقبض له سبعون تنيناً لو أن واحداً منها نفخ في الأرض ما أنبتت شيئاً ما بقيت الدنيا فينهشنه ويخدشنه حتى يفضي به إلى الحساب.
قال وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار" ويروى أن رجلاً دخل على عمر بن عبد العزيز رضي اللّه عنه فرآه قد تغير لونه من كثرة العبادة فجعل يتعجب من تغير لونه واستحالة صفته فقال له عمر: يا ابن أخي وما يعجبك مني فكيف لو رأيتني بعد دخول قبري بثلاث وقد خرجت الحدقتان فسالتا على الخدين وتقلصت الشفتان عن الأسنان وخرج الصديد والدود من المناخر والفم وانتفخ البطن فعلا على الصدر وخرج الدبر من الصلب لرأيت إذ ذاك شيئاً أعجب مما رأيته الآن.وكان بكر العابد يقول لأمه يا أمه ليتك كنت بي عقيماً إن لابنك في القبر حبساً طويلاً وإن له من بعد ذلك رحيلاً.وقال حاتم الأصم من مر بفناء القبور ولم يتفكر في نفسه ولم يدع لهم فقد خان نفسه وخانهم. قال القشيري سمعت أبا علي الدقاق يقول دخلت على الإمام أبي بكر بن فورك عائداً فلما رآني دمعت عيناه فقلت له إن اللّه يعافيك ويشفيك فقال لي تراني أخاف من الموت إنما أخاف مما وراء الموت.
وسمعت بعض الفقراء يقول إن سبب زهد داود بن نصر الطائي أنه سمع نائحة تنوح: بأي خديك تبدي البلا وأي عينيك إذا سالا واعجبا لو وصف طبيب لك داءك ودواءك لاستمعت إليه ولأطعته وهذا دواء دائك العظيم الدفين الذي يصلي صاحبه نار جهنم فلا تسمع إليه حق الاستماع وربما إن طال المجلس نعست أو تكلمت مع أنه ورد ذم المتكلم. ولو كنت في لهو أو أمر دنيا لم تنعس بل ارتحت له وما ذاك إلا لخبث سريرتك وضعف إيمانك أين آباؤك وأين إخوانك وأحبائك سكنوا بطون الأرض وصاروا أكلاً للهوام ولا يقدرون على دفع ما يلقون من العذاب:
أحوال الموتى
قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: "مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان لا يسبرئ من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة ثم أخذ جريدة رطبة فشقها نصفين ثم غرز في كل قبر واحدة فقال لعله أن يخفف عنهما ما لم تيبسا". ورؤى بعض الموتى في المنام فقيل له كيف كان حالك فقال صليت يوماً بلا وضوء فوكل عليَّ ذئب يروعني في قبري فحالي معه أسوأ حال. ورؤى آخر في النوم فقيل له ما فعل اللّه بك فقال: دعني فإني لم أتمكن من الغسل يوماً من الجنابة فألبسني اللّه ثوباً من النار أتقلب فيه ليلاً ونهاراً. ومر عيسى بن مريم عليه السلام بمقبرة فنادى رجلاً منهم فأحياه اللّه فقال من أنت فقال كنت جَّمالاً أنقل الناس فنقلت يوماً لإنسان حطباً وكسرت منه خلالاً وتخللت به فأنا مطالب به منذ مت. ورؤى سفيان الثوري في المنام وله جناحان يطير بهما في الجنة من شجرة إلى شجرة فقيل له بم نلت هذا فقال بالورع. ووقف حسان بن أبي سنان على أصحاب الحسن فقال أي شيْ أشد عليكم فقالوا الورع فقال ولا شيء أخف عليّ منه فقالوا فكيف? فقال لم أرو من نهركم أربعين سنة. وكان حسان بن أبي سنان لا ينام مضطجعاً ولا يأكل سميناً ولا يشرب بارداً ستين سنة فرؤي في المنام بعدما مات فقيل له ما فعل اللّه بك فقال خيراً إلا أني محبوس عن الجنة بإبرة استعرتها فلم أردها. وكان لعبد الواحد بن زيد غلام خدمه سنين ويعبد ربه أربعين سنة وكان في ابتداء الأمر كيالاً فلما مات رؤي في المنام فقيل له ما فعل اللّه بك فقال خيراً غير أني محبوس عن الجنة وقد خرج عليَّ من غبار القفيز أربعون قفيزاً.
ويروى أن رجلاً جاء إلى القبور فصلى ركعتين ثم اضطجع على شقه فنام فرأى صاحب القبر في المنام فقال هذا إنكم تعملون ولا تعلمون ونحن نعلم ولا نعمل ولأن تكون ركعتان في صحيفتي أحب إليّ من الدنيا وما فيها. وقال بعض الصالحين مات لي أخ في اللّه فرأيته في النوم فقلت له يا فلان عشت الحمد للّه رب العالمين قال لي لأن أقدر أن أقولها يعني الحمد للّه رب العالمين أحب إليّ من الدنيا وما فيها ثم قال ألم تر حيث كانوا يدفنوني فإن فلاناً جاء فصلى ركعتين لأن أقدر أن أصليهما أحب إليّ من الدنيا وما فيها. وذكر أبو سبرة أن منكراً ونكيراً أتيا رجلاً إلى قبره وقالا إنا ضاربوك مائة ضربة فقال الميت إني كنت كذا وكذا وتشفع ببعض أعماله الصالحة حتى حطا عنه عشراً ولم يزل يتشفع حتى حطا الجميع إلا ضربة فضرباه ضربة فالتهب القبر عليه ناراً فقال لم ضربتماني فقالا مررت بمظلوم فاستغاث بك فلم تغثه. وقال عبد اللّه بن عمر وجماعة من أهل بيته إنا كنا ندعو اللّه تعالى ليرينا عمر في المنام فرأيته في المنام بعد اثنتي عشرةٌ سنة كأنه قد اغتسل وهو متلفع بإزار فقلت يا أمير المؤمنين كيف وجدت ربك وبأي حسناتك جازاك فقال يا عبد الله كم لي منذ فارقتكم فقلت اثنتي عشرة سنة فقال منذ فارقتكم كنت في الحساب وخفت أن أهلك إلا أن اللّه غفور رحيم جواد كريم فهذا حال عمر ولم يكن له في دنياه شيء من أسباب الولاية سوى درة.وروي أنه زنى أبو شحمة ولد عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه فجلده مائة جلدة فمات فلما كان بعد أربعين يوماً قال حذيفة بن اليمان رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في المنام وإذا الفتى معه وعليه حلتان خضراوان وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أقرئ عمر مني السلام وقل له هكذا آمرك أن تقرأ القرآن وتقيم الحدود وقال الغلام يا حذيفة أقرئ أبي مني السلام وقل له طهرك اللّه كما طهرني والسلام.وروى عن أبي بكر بن أبي الدنيا عن أصحابه أنه قال لنباش بعد توبته ما سبب توبتك ورجوعك إلى اللّه قال نبشت إنساناً فوجدته قد سمر بمسامير في جميع جسده ومسمار كبير في رأسه وآخر في رجليه وقال الآخر ما سبب توبتك قال رأيت جمجمة إنسان قد صب فيها الرصاص.ويروى أن بعض النباشين نبش ذات ليلة قبراً فلما كشف عن الميت إذا بنار تحرق الميت فأهوت إليه منها شرارة فهرب وتاب إلى اللّه تعالى وقيل رؤي الأوزاعي في المنام فقال ما رأيت هاهنا درجة أرفع من درجة العلماء ثم المحزونين. ورؤي أبو عبد اللّه النداد في المنام فقيل له ما فعل اللّه بك فقال أوقفني وغفر لي كل ذنب أقررت به في الدنيا إلا واحداً استحييت أن أقر به فوقفني في العرق حتى سقط لحم وجهي فقيل له وما ذاك فقال نظرت إلى شخص جميل فاستحييت أن أذكره.وروى عن هاشم بن حسان أنه قال مات لي ابن حدث فرأيته في النوم فإذا شيب رأسه فقلت يا بني ما هذا الشيب قال لما قدم علينا فلان زفرت جهنم لقدومه زفرة لم يبق أحد منا إلا شاب. وقيل لما مات كرز بن وبرة رؤي في المنام كأن أهل القبور خرجوا من قبورهم وعليهم ثياب جدد بيض وقيل ما هذا? فقالوا إن أهل القبور كسوا لباساً جدداً لقدوم كرز عليهم.وروي أن بعض الصالحين قال كان لي ابن استشهد فلم أره في المنام إلى ليلة توفي عمر بن عبد العزيز رضي اللّه عنه إذ تراءى لي تلك الليلة فقلت يا بني ألم تك ميتاً فقال لا ولكني استشهدت وأنا حي عند اللّه تعالى أرزق فقلت ما جاء بك فقال نودي في أهل السماوات أن لا يبقى نبي ولا صديق ولا شهيد إلا ويحضر الصلاة على عمر بن عبد العزيز فجئت لأشهد الصلاة ثم جئتكم لأسلم عليكم.
وروي أن عبد الواحد بن عبد المجيد الثقفي قال رأيت جنازة يحملها ثلاثة رجال وامرأة فأخذت مكان المرأة وذهبنا إلى المقبرة فصلينا عليها ودفناها فقلت للمرأة من كان هذا منك قالت ابني أو لم يكن لك جيران قالت نعم ولكنهم صغروا أمره فقلت وإيش كان هذا فقالت هو مخنث قال فرحمتها وذهبت بها إلى منزلي وأعطيتها دراهم وحنطة وثياباً ونمت تلك الليلة فرأيت كأنه أتاني آت كأنه القمر ليلة البدر وعليه ثياب بيض فجعل يشكرني فقلت من أنت قال أنا المخنث الذي دفنتموني اليوم رحمني ربي باحتقار الناس إياي تزود لنفسك يا أخي بالتقوى ومن عرف ما بين يديه لم يؤثر الهوى ومن تفكر في رحيل من كان لديه صار النهوض مستيقناً عليه كم مغرور بشبابه وصحة حاله اختطفه الموت من خلاله كم من مائل إلى جمع ماله تركه تركة ومر بأثقاله هل رحم الموت مريضاً لضعف أوصاله هل ترك كاسباً لأجل أطفاله:
أشراط الساعة وأحوالها
قال اللّه تعالى: )اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ.مَا يَأْتِيهِم مِنّ ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ.لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ (.وروى الشيخان أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويكثر الجهل ويكثر الزنى ويكثر شرب الخمر ويقل الرجال ويكثر النساء حتى يكون لخمسين امرأة القيم".وروي عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "إذا اتخذ الفيء دولاً والأمانة مغنماً والزكاة مغرماً وتعلم لغير دين اللّه وأطاع الرجل امرأته وعق أمه وأدنى صديقه وأقصى أباه وظهرت الأصوات في المساجد وساد القبيلة فاسقهم وكان زعيم القوم أرذلهم وأكرم الرجل مخافة شره وظهرت القينات والمعازف وشربت الخمور ولعن آخر هذه الأمة أولها فارتقبوا ريحاً حمراء وزلزلة وخسفاً وقذفاً وآيات تتابع كنظام قطع سلكه فتتابع".وعن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال: ذكر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بلاء يصيب هذه الأمة حتى لا يجد الرجل ملجأ يلجأ إليه من الظلم فيبعث اللّه رجلاً من عترتي وأهل بيتي فيملأ به الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض لا تدع السماء من قطرها شيء إلا صبته مدراراً ولا تدع الأرض من نباتها شيئاً إلا أخرجته حتى يتمنى الأحياء الموت، يعيش في ذلك سبع سنين أو ثماني سنين أو تسع سنين.وفي صحيح مسلم عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال أطلع النبي صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر فقال"ما تذاكرون" قالوا نذكر الساعة قال"إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات فذكر الدخان والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى بن مريم ويأجوج ومأجوج وثلاثة خسوف خسف في المشرق وخسف في المغرب وخسف بجزيرة العرب وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم".وفي صحيح مسلم قال: "ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض".واختلف في أول الآيات فقيل أولها طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة وجاء من رواية ابن أبي شيبة عن عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "وأيتهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على أثرها".ودابة الأرض طولها ستون ذراعاً ذات قوائم ووبر وقيل مختلفة الخلقة تشبه عدة من الحيوانات تتصدع بجبل الصفا فتخرج منه ليلة جمع والناس نزول إلى منى وقيل تخرج من أرض الطائف ومعها عصا موسى وخاتم سليمان عليهما السلام لا يدركها طالب ولا يعجزها هارب تضرب المؤمن بالعصا فينكت في وجهه مؤمن وتطبع الكافر بالخاتم فينكت في وجهه كافر.
وفي صحيح مسلم عن النواس بن سمعان قال وذكر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الدجال فقال "إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه واللّه خليفتي على كل مسلم إنه شاب قطط عينه طافية كأني أشبهه بعبد العزى بن قطن فمن أدركه منكم فليقرأ عليه بفواتح سورة الكهف فإنها جوازكم من فتنته انه خارج خِلَّةٌ بين الشام والعراق فعاث يميناً وعاث شمالاً يا عباد اللّه فاثبتوا" قلنا يا رسول اللّه وما لبثه في الأرض قال "أربعون يوماً يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم" قلنا فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم قال "لا أقدروا له قدره" قلنا يا رسول اللّه وما إسراعه في الأرض قال "كالغيث استدبرته الريح فيأتي القوم فيدعوهم فيؤمنون به فيأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرى وأسبغه ضروعاً وأمده خواصر ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم ويمر بالخربة فيقول لها أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل ثم يدعو رجلاً ممتلئاً شباباً فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه يضحك فبينما هو كذلك إذ بعث اللّه المسيح بن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعاً كفيه على أجنحة ملكين إذ طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدر منه مثل جمان كاللؤلؤ فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله ثم يأتي عيسى قوم قد عصمهم اللّه منه فيمسح عن وجوههم ويحدثهم في الجنة بدرجاتهم فبينما هو كذلك إذ أوحى اللّه إلى عيسى أني قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم فأحرز عبادي إلى الطور ويبعث اللّه يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها ويمر آخرهم فيقول لقد كان بهذه مرة ماء ثم يسيرون حتى ينتهوا إلى جبل الخمر وهو جبل بيت المقدس فيقولون قد قتلنا من في الأرض هلم فلنقتل من في السماء فيرمون بنشابهم إلى السماء فيرد اللّه إليهم نشابهم مخضوبة خضوبة دماً ويحصر نبي اللّه وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيراً من مائة دينار لأحدكم اليوم فيرغب اللّه عيسى وأصحابه فيرسل اللّه عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة ثم يهبط نبي اللّه وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم "وروي زهمهم بضم الزاي وفتح الهاء وموضع زهمة وهي الريح المنتنة" ونتنهم فيرغب نبي اللّه عيسى وأصحابه إلى اللّه فيرسل عليهم طيراً كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء اللّه "ويروي تطرحهم بالسهيل" ويستوقد المسلمون من قسيهم ونشابهم وجعباتهم سبع سنين ثم يرسل اللّه مطراً لا يكن منه بيت مد ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة ثم يقال للأرض انبتي ثمرتك وردي بركتك فيومئذ تأكل العصابة منت الرمانة ويستظلون بقحفها ويبارك في الرسل حتى أن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس فبينما هم كذلك إذ بعث اللّه ريحاً طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مؤمن وتبقي شرار الناس يتهارجون تهارج الحمير فعليهم تقوم الساعة"
وأنشد بعضهم:
النفخ في الصور
قال اللّه تعالى: ) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاءَ الله ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ. وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّنَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ. وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ. وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوَاْ إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءوهَا فُتِحَتْ أَبْوَبُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ. قِيلَ ادْخُلُوَاْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى آلْمُتَكَبِرِينَ. وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّىَ إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَبُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ. وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ. وَتَرَى الْمَلاَئِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَولِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِالْحَقِ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.(.وفي كتاب النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وأصغى بسمعه وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر بالنفخ فينفخ". قالوا يا رسول اللّه وكيف نقول قال: "قولوا سبحان اللّه ونعم الوكيل على اللّه توكلنا".وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي اللّه عنها قالت سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: "يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً". قلت يا رسول اللّه النساء والرجال جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض? قال: "يا عائشة الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض".
وفي كتاب الترمذي عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف صنفاً مشاة وصنفاً ركباناً وصنفاً على وجوههم". قيل يا رسول اللّه وكيف يمشون على وجوههم قال: "إن الذي أمشاهم في الدنيا على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم أما أنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك".وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف طرائق راغبين وراهبين واثنان على بعير وثلاثة على بعير وأربعة على بعير وعشرة على بعير وتحشر بقيتهم النار تقيل معهم حيث قالوا وتبيت معهم حيث باتوا وتصبح معهم حيث أصبحوا وتمسي معهم حيث أمسوا".وفيه قال صلى الله عليه وسلم: "يقبض اللّه الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض".وفيه قال يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء صفراء كقرصة النقي قال سهل أو غيره وليس فيها معلم لأحد وصح أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "يبعث الميت في ثيابه التي مات فيها" قيل المراد بالثياب العمل وحمله أبو سعيد الخدري على ظاهره.وفي صحيح مسلم عن المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: "تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون كمقدار ميل". قال سليم بن عامر فواللّه ما أدري ما يعني بالميل المسافة الأرض أو الميل الذي يكتحل به العين قال: "فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق فمنهم من يكون إلى كعبيه ومنهم من يكون إلى ركبتيه ومنهم من يكون إلى حقويه ومنهم من يلجمهم العرق إلجاماً وأشار بيده صلى الله عليه وسلم إلى فيه".وفي مسند أبي بكر البزار عن جابر بن عبد اللّه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إن العرق يلزم المرء في الموقف حتى يقول يا رب إرسالك بي إلى النار أهون علي مما أجد وهو يعلم ما فيها من شدة العذاب.وقال بعض السلف لو طلعت الشمس على الأرض كهيئتها يوم القيامة لأحرقت الأرض وأذابت الصخر ونشفت الأنهار. وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "سبعة يظلُّهم اللّه تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله إمام عادل وشاب نشأ في عبادة اللّه ورجل قلبه متعلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه ورجلان تحابا في اللّه اجتمعا عليه وتفرقا عليه ورجل ذكر اللّه تعالى خالياً ففاضت عيناه ورجل دعته امرأة ذات حسن وجمال فقال إني أخاف اللّه ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه".قال الحسن البصري رحمه اللّه فما ظنكم بيوم قاموا فيه على أقدامهم مقدار خمسين ألف سنة لم يأكلوا فيها أكلة ولم يشربوا شربة حتى انقطعت أعناقهم عطشاً واحترقت أجوافهم جوعاً ثم انصرف بهم إلى النار فسقوا من عين آنية أي متناهية في الحرارة أوقدت عليها جهنم منذ خلقها.
شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم
قال اللّه تعالى: )َمن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إَّلاَّ بِإِْذنِهِ( .وفي صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بلحم فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه فنهس منها نهسة ثم قال: "أنا سيد الناس يوم القيامة وهل تدرون مم ذلك? يجمع اللّه الأولين والآخرين في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون فيقول الناس ألا ترون ما بلغكم ألا تنظرون إلى من يشفع لكم إلى ربكم: فيقول بعض الناس لبعض أبوكم آدم فيأتون آدم فيقولون أنت أبو البشر خلقك اللّه بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا فيقول آدم إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب مثله قبله ولن يغضب مثله بعده وإنه قد نهاني عن الشجرة فعصيته نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح فيأتون نوحاً فيقولون أنت أول الرسل إلى الأرض وقد سماك اللّه عبداً شكوراً أما ترى إلى ما نحن فيه ألا ترى إلى ما بلغنا ألا تشفع لنا إلى ربك? فيقول إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإنه كانت لي دعوة دعوت بها على قومي نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى إبراهيم فيأتون إبراهيم فيقولون يا إبراهيم أنت نبي اللّه وخليله من أهل الأرض اشفع لنا إلى ربك أما ترى ما نحن فيه فيقول لهم إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإني كذبت ثلاث كذبات نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى موسى فيأتون موسى فيقولون يا موسى أنت رسول اللّه فضَّلك اللّه برسالته وبكلامه على الناس اشفع لنا إلى ربك أما ترى إلى ما نحن فيه فيقول إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإني قد قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى عيسى فيأتون عيسى فيقولون يا عيسى أنت رسول اللّه وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وكلمت الناس في المهد اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه فيقول عيسى إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله ولم يذكر ذنباً فيأتون محمداً صلى الله عليه وسلم".وفي رواية "فيأتونني فيقولون يا محمد أنت رسول اللّه وخاتم الأنبياء وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه فانطلق وآتي تحت العرش فأقع ساجداً لربي ثم يفتح اللّه علي من محامده حسن الثناء عليه ما لم يفتحه على أحد قبلي ثم يقال يا محمد ارفع رأسك سل تعط واشفع تُشَفَّع فأرفع رأسي فأقول أمتي يا رب أمتي يا رب أمتي يا رب فيقول: يا محمد ادخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب ثم قال: والذي نفسي بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر أو كما بين مكة وبصرى".وفي الصحيحين "يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون".وفي رواية في صحيح مسلم سبعون ألفاً مع كل واحد منهم سبعون ألفاً قال في المفاتيح: التوكل نوعان خاص وهو أن يترك التداوي والاسترقاء والكي لغاية ثقته بأنه لا يصيبه إلا ما كتب اللّه له من النفع والضر وهو المراد هنا. وعام يجب على الكل وهو أن يعلم أن لا مؤثر إلا اللّه فالطعام لا يشبع والأدوية لا تشفي إلا بأمره، ومن له هذا الاعتقاد جاز له التداوي والاسترقاء. وكسب المال بالتجارة والحرف.
الحساب
قال اللّه تعالى: )وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ. وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ. وَقِلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ. مِن دُونِ الله هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ. فَكُبِكْبُواْ فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُنَ. وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ.(.وقال اللّه تعالى: )فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرسَلِينَ. فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ.(.وفي صحيح مسلم عن شقيق بن عبد اللّه قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يؤتي بجهنم يوم القيامة لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها".وفي صحيح البخاري "يجاء بنوح يوم القيامة فيقال هل بلغت فيقول نعم يا رب فيسأل أمته هل بلغكم فيقولون ما جاءنا من نذير فيقال من شهودك فيقول محمد وأمته فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فيجاء بكم فتشهدون ثم قرأ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: )وَكَذَلِكَ جَعَلْنَكُمْ أُمَّةً وَسَطا(قال: عدولاً، ) لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً (وقال مقاتل في قوله تعالى: )وَامْتَازُواْ الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ( أي اعتزلوا اليوم يعني في الآخرة من الصالحين وقال السدي كونوا على حدة.وفي الصحيحين قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "يقول اللّه يا آدم قم فابعث بعث النار فيقول لبيك وسعديك والخير في يديك وما بعث النار? فيقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين قال فحينئذ يشيب الوليد وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب ربك شديد" فاشتد ذلك عليهم فقالوا يا رسول اللّه أين ذلك الرجل فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم "تسعمائة وتسعة وتسعون من يأجوج ومأجوج ومنكم واحد" فقال الناس اللّه أكبر فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم "واللّه إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة واللّه إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة والله إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة" فكبر الناس فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم "ما أنتم يومئذ في الناس إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود أو كالشعرة السوداء في الثور الأبيض".وفي صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم: "لتؤدن الحقوق إلى أهلها حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء" قال الكلبي يقول اللّه عز وجل للبهائم والوحوش والطيور والسباع كن تراباً فسوى بهن الأرض فعند ذلك يتمنى الكافر أن لو كان تراباً لما قال اللّه تعالى: )وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَبَا(وفي كتاب الترمذي وغيره عن أبي برزة الأسلمي رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة من بين يدي اللّه تعالى حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه وعن جسده فيم أبلاه وعن علمه فيم عمل به وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه". وفي صحيح مسلم عن أنس رضي اللّه عنه قال كنا عند رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فضحك فقال "أتدرون مم أضحك?" قلنا اللّه ورسوله أعلم قال "من مخاطبة العبد ربه يقول يا رب ألم تجرني من الظلم قال يقول بلى فيقول إني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني فيقول كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً وبالكرام الشاهدين عليك شهوداً قال فيختم على فيه ويقال لأركانه انطقي قال فتنطق بأعماله ثم يخلي بينه وبين الكلام فيقول بعداً لكن وسحقاً فعنكن كنت أناضل".وفي الصحيحين عن عدي بن حاتم قال. قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبين ربه ترجمان فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه فاتقوا ولو بشق تمرة".
وفي الصحيحين عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "من حوسب يوم القيامة عذب" فقلت أليس قد قال اللّه تعالى: )فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيرا( قال "ليس ذلك الحساب إنما ذلك العرض من نوقش الحساب يوم القيامة عذب".فتفكر رحمك اللّه سؤال ربك لك بغير واسطة على كل قليل وكثير ونقير وقطمير وقول الملائكة يا فلان هلم إلى الموقف.
وقد روي عنه عليه السلام: إن للّه ملكاً ما بين شفرتي عينيه مسيرة مائة عام فما ظنك بنفسك إذا شاهدت مثل هؤلاء الملائكة أرسلوا إليك ليأخذوك إلى مقام العرض فترتعد فرائضك وتضطرب جوارحك وتتمنى حملك إلى جهنم ولا تعرض قبائحك على ربك تعالى فتوهم نفسك في أيدي الموكلين بك حتى انتهوا بك إلى عرش الرحمن فرموك من أيديهم وناداك اللّه عز وجل بعظيم كلامه يا ابن آدم ادن مني فدنوت بقلب خافق محزون وجل وطرف خاشع ذليل وأعطيت كتابك الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها فليت شعري بأي قدم تقف بين يدي اللّه وبأي لسان تجيب وبأي قلب تعقل ما تقول وماذا تقول إذا قال: أما استحييت مني ظننت أني لا أراك.وعن الفضيل: إني لا أغبط أن أكون ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً ولا عبداً صالحاً أليس هؤلاء يعاقبون في القيامة إنما أغبط من لم يخلق.فصل في الميزان
قال اللّه تعالى: )الْقَارِعَةُ. مَا الْقَارِعَةُ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ. يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ. وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهنِ الْمَنفُوشِ. فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ. فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ. نَارٌ حَامِيَةٌ.(.وذكر أبو بكر البزار رضي اللّه عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"ملك موكل بالميزان فيؤتي بابن آدم فيوقف بين كفتي الميزان فإن ثقل ميزانه نادى ملك بصوت يسمع الخلائق سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبداً وإن خفت ميزانه نادى ملك بصوت يسمع الخلائق شقي فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبداً".
وفي سنن أبي داود عن عائشة رضي اللّه عنها أنها ذكرت النار فبكت فقال صلى الله عليه وسلم "ما يبكيك?" قالت ذكرت النار فبكيت فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة فقال صلى الله عليه وسلم "أما ثلاثة مواطن فلا يذكر فيها أحد أحداً عن الميزان حتى يعلم أيخف ميزانه أم يثقل وعند الكتاب حين يقال هاؤم أقرؤا كتابيه حتى يعلم أين يقع كتابه أفي يمينه أم في شماله أم من وراء ظهره وعند الصراط إذا وضع بين ظهراني جهنم".
وفي الوسيط عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: "ليعتذرن اللّه إلى آدم ثلاث معاذير يقول اللّه يا آدم لولا أني لعنت الكذابين وأبغضت الكذاب والخلف وأوعدت لرحمت اليوم ولدك أجمعين من شدة ما أعددت لهم من العذاب ولكن حق القول مني لئن كذبت رسلي وعصي أمري لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين. ويقول اللّه عز وجل: يا آدم اعلم أني لا أدخل من ذريتك النار أحداً ولا أعذب منهم بالنار أحداً إلا من قد علمت بعلمي أني لو رددته إلى الدنيا لعاد إلى شر مما كان فيه ولم يرجع ولم يعتب. ويقول عز وجل: "قد جعلت حكماً بيني وبين ذريتك قم عند الميزان فانظر ما يرفع إليك من أعمالهم فمن رجح منهم خيره على شره مثقال ذرة فله الجنة حتى تعلم أني لا أدخل منهم النار إلا ظالماً".
وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أتدرون من المفلس" قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع فقال "إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار".وفي الصحيح "إن أول ما يقضى في الدماء".وفي معالم التنزيل روي عن عبد اللّه بن مسعود قال: إذا كان يوم القيامة جمع اللّه الأولين والآخرين ثم نادى مناد من كان يطلب مظلمة فليجئ إلى حقه فليأخذه فيفرح المرء أن يكون له الحق على والده أو ولده أو زوجته أو أخيه فيأخذ منه وإن كان صغيراً ومصداق ذلك في كتاب اللّه عز وجل: )فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ. فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَلِدُونَ( .ويؤتى بالعبد وينادي مناد على رؤوس الأولين والآخرين هذا فلان ابن فلان من كان له عليه حق فليأت إلى حقه ثم يقال آت هؤلاء حقوقهم فيقول يا رب من أين وقد ذهب الدنيا فيقول اللّه عز وجل للملائكة انظروا في أعماله الصالحة فأعطوهم منها فإن بقي مثقال ذرة من حسنة قالت الملائكة يا ربنا بقي له مثقال ذرة من حسنة فيقول اللّه عز وجل ضعفوها لعبدي وأدخلوه بفضل رحمتي الجنة ومصداق ذلك في كتاب اللّه عز وجل:
)إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَعِفْهَا(وإن كان عبداً شقياً قالت الملائكة إلهنا فنيت حسناته وبقي طالبون فيقول اللّه عز وجل خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته ثم صكوا له صكاً إلى النار.
وذكر الترمذي من حديث عبد اللّه بن عمرو بن العاص رضي اللّه عنهما قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:
"إن اللّه سيخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً كل سجل مثل مد البصر ثم يقول اللّه أتنكر من هذا شيئاً،أظلمك كتبتي الحافظون? فيقول لا يا رب فيقول اللّه أفلك عذر فيقول لا يا رب فيقول بلى إن لك عندنا حسنة فإنه لا ظلم عليك اليوم فتخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أن محمداً رسول اللّه فيقول أحضر وزنك فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات فيقال: إنك لا تظلم قال فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة قال فلا يثقل مع أسم اللّه شيء"
أي من كان معه ذكر اللّه فلا يقاومه شيء يترجح من المعاصي بل يترجح الذكر على المعاصي.فتفكر رحمك اللّه في ميزانك واحترز من خسرانك واعلم أن من لا سيئة له فله الجنة ومن لا حسنة له فله النار ومن خلط فالعدل بالميزان فاتقوا اللّه عباد اللّه ومظالم العباد بأخذ أموالهم والتعرض لأعراضهم وتضييق قلوبهم وإساءة الخلق في معاشرتهم فإن ما بين العبد وبين اللّه خاصة فالمغفرة إليه أسرع.وقيل إذا تعلق المظلوم بالظالم الأواب وهو الذي أقلع عن الذنب فلم يعد إليه ولم يتمكن من الاستحلال قال اللّه للمظلوم ارفع رأسك فيرفع راسه فإذا بقصر عظيم يلوح فيقول: ما هذا يا رب? فيقول: إنه للبيع فاشتره مني فيقول ما معي ثمنه فيقول: أن تبرئ مظلمة أخيك فالقصر لك فيقول قد فعلت يا رب.وحكي أنه لما حضرت لقمان الحكيم الوفاة بكى فقال له ابنه ما يبكيك يا أبت? فقال يا بني لست أبكي على الدنيا ولا على نعيمها ولكن على ما أمامي من الشقة البعيدة والمفازة السحيقة والعقبة الكئود والزاد القليل والحمل الثقيل ولا أدري أيحط عني ذلك الحمل حتى أبلغ الغاية أم أثقل حتى أساق إلى النار فلهذا أبكي فمات رحمه اللّه.المرور على الصراط والحوض
قال اللّه تعالى: )فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً. ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً. ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً. وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً. ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً.(واختلف في ورودها فقيل هو الدخول فيها وهي خامدة فيعبرها المؤمنون وتنهار بغيرهم وقيل هو الجواز على الصراط فإنه ممدود عليها وصححه النووي رحمه اللّه.وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أو حذيفة بعد ما ذكر حديث الشفاعة التي لجأ الناس إليه صلى الله عليه وسلم فيها وهي الإراحة من الموقف والفصل بين العباد قال فيأتون محمداً فيقوم ويؤذن له وترسل الأمانة والرحم فتنبي الصراط يمناً وشمالاً فيمر أولكم كالبرق ثم كمر الطير وأشد الرجال تجري بهم أعمالهم ونبيكم صلى الله عليه وسلم قائم على الصراط يقول رب سلم ربِّ سلَّم حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفاً قال: وفي حافظتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ من أمرت فمخدوش ناج ومكدوس في النار والذي نفس أبي هريرة إن قعر جهنم لسبعون خريفاً.قال في إكمال العلم تفسير الحديث الآخر: "إن الصخرة العظيمة لتلقى في شفير جهنم فتهوى فيها سبعون عاماً حتى تفضي إلى قرارها".وفي صحيح البخاري قال: رسول اللّه صلى الله عليه وسلم "يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة فو الذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى لمنزلة في الجنة منه لمنزلة كان في الدنيا.
وفي رسالة القشيري قال معاذ بن جبل: إن المؤمن لا يطمئن قلبه ولا تسكن روعته، حتى يخلف جسر جهنم.وكان أبو ميسرة رضي اللّه عنه، إذ أوى إلى فراشه قال: يا ليت أمي لم تلدني، ثم يبكي، فقيل ما يبكيك? فقال: أخبرنا أنا واردوها ولم نخبر أنا صادرون عنها.وبكى عبد اللّه بن رواحة وقال: آية أنزلت ينبئني فيها ربي، إني وارد النار، ولم ينبئني أني صادر عنها، فذلك الذي أبكاني.وقال الحسن: كيف لا يحزن المؤمن وقد حدث عن اللّه أنه وارد جهنم ولم ينبئه بأنه صادر عنها.وفي صحيح مسلم عن أنس قال: بينما رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا، إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسماً، فقيل: ما أضحكك يا رسول اللّه? قال: "نزلت على آنفاً سورة يقرأ فيها: بسم اللّه الرحمن الرحيم: )إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ. فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ. إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ.( ".ثم قال: "أتدرون ما الكوثر?" فقلنا: اللّه ورسوله أعلم، قال: "فأنه نهر وعدنية ربي عليه خير كثير، وهو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد النجوم فيختلج العبد منهم فأقول ربي إنه من أمتي فيقول: ما تدري ما حدث بعدك".وقوله يختلج بلفظ المجهول أي يعدل به عن الحوض، وهو إما المرتد وإما العاصي.وفي كتاب الترمذي عن سمرة بن جندب قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "إن لكل نبي حوضاً وإنهم ليتباهون أيهم أكثر واردة وأني لأرجو أن أكون أكثرهم واردة".وفي صحيح البخاري عن سهل بن سعد قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا فرطكم على الحوض من مر علي شرب ومن شرب لم يظمأ أبداً، ليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم".وزاد أبو سعيد الخدري فقال: "فأقول إنهم مني فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً لمن غير بعدي". قوله لم يظمأ" أي لم يعطش وفيه أن الشرب منه يكون بعد الحساب والنجاة من النار، وفيه أن الواردين المارين عليه كلهم يشربون، وإنما يمنع الذين يزادون عن الورود والمرور عليه، وسحقاً: أي بعداً، وهذا مشعر بأنهم مرتدون عن الدين، لأنه يشفع للعصاة، ويهتم بأمرهم، ولا يقول لهم مثل ذلك.وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بينما أنا قائم عند الحوض، إذ زمرة حتى إذا عرفتهم، خرج رجل من بيني وبينهم، فقال هلم فقلت: إلى أين? قال إلى النار واللّه قلت: ما شأنهم، قال إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقري، ثم إذا زمرة إذا عرفتهم، خرج رجل من بيني وبينهم، فقال هلم فقلت إلى أين قال: إلى النار واللّه، قلت: ما شأنهم، قال: إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقري، فلا أراه يخلص فيهم إلا مثل همل النعم".
قال الكرماني في الكواكب الدراري والهمل بفتحتين ما يترك مهملاً لا يتعهد ولا يرعى، حتى يضيع ويهلك، أي لا يخلص منهم من النار، إلا قليل وهذا مشعر بانهم صنفان كفار وعصاة.وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: إن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أتي المقبرة فقال:
"السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء اللّه بكم لاحقون، ووددت أنا قد رأينا إخواننا قالوا أولسنا إخوانك يا رسول اللّه? قال بل أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد". قالوا: وكيف تعرف من لم يأتي بعد من أمتك يا رسول اللّه? قال: أرأيت لو أن رجلاً له خيل غر محجلة بين ظهري خيل دهم بهم، ألا يعرف خيله? قالوا: بلى يا رسول اللّه قال: "فإنهم يأتون غراً محجلين من الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض ألا ليذادن رجال عن حوضي، كما يذاد البعير الضال أناديها ألا هلم ألا هلم، فيقال إنهم قد بدلوا بعدك فأقول سحقاً سحقاً".
وفي كتاب الترمذي عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم "حوضي من عدن إلى عمان البلقاء، ماؤه اشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وآنيته عدد نجوم السماء، من شربة شربة لم يظمأ بعدها أبداً، أول الناس وروداً عليه فقراء المهجرين، الشعت رؤوساً، الدنس ثياباً، الذين لا ينكحون المتنعمات، ولا تفتح لهم السدد" فقال عمر بن عبد العزيز لكني نكحت متنعمات، وفتحت لي السدد نكحت فاطمة بنت عبد الملك، لا جرم أن لا أغسل رأسي، حتى يتشعت، ولا أغسل ثوبي الذي يلي جسدي حتى يتسخ.
وفي صحيح البخاري كان ابن أبي مليكة يقول: اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا أو نفتن عن ديننا. واعلم أن الحوض بيد النبي صلى الله عليه وسلم، على باب الجنة، يسقى منه المؤمنون، وهو مخلوق اليوم، فتب يا أخي إلى ربك واتقه ليخرجك من همك، واسأله أن يبقيك فتنة تقع في دينك، فتذاد عن حوض نبيك قيل إن اللّه ستر ثلاثاً في ثلاث، ستر رضاه في طاعته فلا يحقرن أحدكم من الطاعة شيئاً فرب محتقر من الطاعة فيه رضا اللّه، وستر غضبه في معصيته فلا يحقرن أحدكم شيئاً من المعصية، فرب محتقر من المعصية فيه غضب اللّه، وستر وليه في خلقه فلا يحقرن أحدكم أحداً من خلق اللّه، فرب من لا يؤبه له وهو ولي اللّه، وستر أيضاً رابعاً، وهو الإِجابة في الدعاء، فلا يحقرن أحدكم شيئاً من الدعاء، على أي حال كان، وفي أي موطن كان.
الشفاعة الكبرى
قال اللّه تعالى: )يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ(.
ذكر أبو بكر البزار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يحمل الناس يوم القيامة على الصراط فيتفادع بهم جنبا الصراط تفادع الفراش في النار ثم يؤذن للملائكة والنبيين والشهداء والصالحين فيشفعون ويخرجون من في النار".
وروي في الصحيح: "إن أول من يشفع المرسلون ثم النبيون ثم العلماء".
وفي كتاب الترمذي قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "يدخل الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من بني تميم". قيل: يا رسول اللّه سواك، قال: "سواي".وفي مسند البزار: قال: رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "إن من أمتي من يشفع للفئام من الناس ومنهم من يشفع للعصبة ومنهم من يشفع للقبيلة، ومنهم من يشفع للرجل وأهل بيته".وروى الدارقطني عن أبي أمامة قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "نعم الرجال أنا لشرار أمتي". قالوا كيف لخيارها، قال: "أما خيارها فيدخلون الجنة بأعمالهم، وأما شرار أمتي، فيدخلون الجنة بشفاعتي".وروي عن عوف بن مالك قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "أتاني آت من عند اللّه فيخبرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة وهي لمن مات لا يشرك باللّه شيئاً".وفي الوسيط للواحدي عن جابر قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الرجل يقول في الجنة ما فعل صديقي وصديقه في الجحيم فيقول اللّه عز وجل أخرجوا له صديقه إلى الجنة فيقول من بقي فيها فما لنا من شافعين ولا صديق حميم".
وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: إن ناساً قالوا يا رسول اللّه هل نرى ربنا يوم القيامة، قال: رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "نعم". قال هل: "تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحواً ليس معها سحاب، وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صحواً ليس فيها سحاب". قالوا: لا يا رسول اللّه. قال "ما تضارون في رؤية اللّه تبارك وتعالى يوم القيامة إلا كما تضارون في رؤية أحدهما، إذا كان يوم القيامة أذن مؤذن ليتبع كل أمة ما كانت تعبد، فلا يبقى أحد كان يعبد غير اللّه سبحانه من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد اللّه من بر وفاجر وغُبَّرِ أهل الكتاب فيدعى اليهود فيقال لهم ما كنتم تعبدون? قالوا: كنا نعبد عزير بن اللّه فيقال: كذبتم ما اتخذ اللّه من صاحبة ولا ولد فماذا تبغون? قالوا: عطشنا ربنا فاسقنا، فيشار إليهم ألا تردون فيحشرون إلى النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضاً، فيتساقطون في النار، ثم يدعى النصارى فيقال لهم ما كنتم تعبدون? قالوا: كنا نعبد المسيح ابن اللّه، فيقال لهم : كذبتم ما اتخذ اللّه من صاحبة ولا ولد، فيقال لهم: ماذا تبغون، فيقولون عطشنا يا ربنا فاسقنا قال فيشار إليهم ألا تردون فيحشرهم إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضاً فيتساقطون في النار حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد اللّه تعالى من بر وفاجر أتاهم رب العالمين سبحانه وتعالى في أدنى صورة من التي رواه فيها، قال فما تنتظرون تتبع كل أمة ما كانت تعبد قالوا: يا ربنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ باللّه منك لا نشرك باللّه شيئاً"مرتين أو ثلاثاً" حتى أن بعضهم ليكاد أن ينقلب فيقول: هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها، فيقولون: نعم. فيكشف عن ساق فلا يبقى من كان يسجد للّه من تلقاء نفسه إلا أذن اللّه له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد اتقاء ورياء، إلا جعل اللّه ظهره طبقة واحدة كلما أراد أن يسجد خرَّ على قفاه، ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة، فقال أنا ربكم فيقولون أنت ربنا، قد أخذت النار إلى نصف ساقية وإلى ركبتيه ثم يضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة، ويقولون اللهم سلم سلم، قيليا رسول اللّه وما الجسر? قال: دَحضٌ مزلة فيه خطاطيف، وكلاليب وحسكٌ تكون بنجد فيه شويكة يقال لها السعدان، فيمر المؤمنون كطرفة العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والركاب فناج مسلم ومخدش مرسل ومكدوس في نار جهنم حتى إذا خلص المؤمنون من النار فو الذي نفسي بيده ما منكم من أحد منكم بأشد منشدة للّه في استقصاء الحق من المؤمنين للّه يوم القيامة لإِخوانهم الذين في النار يقولون: ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون، فيقال لهم أخرجوا من عرفتم، فتحرم صورهم على النار، فيخرجون خلقاً كثيراً قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه ثم يقولون: ربنا ما بقى فيها أحد ممن أمرتنا به، فيقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه خلقاً كثيراً، ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحداً ممن أمرتنا ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها خيراً، فيقول اللّه: شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوماً لم يعلموا خيراً قط، قد عادوا حمماً فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة، يقال له نهر الحياة،فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل، ألا ترونها تكون إلى الحجر أو إلى الشجر ما يكون إلى الشمس أصيفر وأخيضر وما يكون منها إلى الظل يكون أبيض فقالوا يا رسول اللّه كأنك كنت ترعى بالبادية قال: فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتمن فيعرفهم أهل الجنة هؤلاء عتقاء اللّه الذين أدخلهم اللّه الجنة بغير بعمل عملوه ولا خير قدموه، فيقال لهم لكم ما رأيتم ومثله معه.أعلم أن الشفاعات خمس:
أولها: الإِراحة من هول الموقف وتعجيل الحساب وهي مختصة بمحمد صلى الله عليه وسلم.والثانية: في إدخال قوم الجنة بغير حساب، وهي أيضاً وردت له صلى الله عليه وسلم.والثالثة: قوم استوجبوا النار فيشفع فيهم نبيا ومن شاء اللّه يشفع له.
والرابعة: في زيادة الدرجات في الجنة لأهلها.والخامسة: فيمن دخل النار من المذنبين فيشفع فيهم نبياً وغيره من الأنبياء والملائكة وإخوانهم المؤمنين، ثم يخرج اللّه كل من قال لا إله إلا اللّه من غير شفاعة شافع حتى لا يبقى فيها إلا الكافرون
كما في حديث عن أنس: "ثم أعود الرابعة فأحمده بتلك المحامد ثم أخرُّ له ساجداً، فيقال يا محمد ارفع رأسك وقل تسمع وسل تعطه واشفع تشفع، فأقول يا رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا اللّه، قال ليس ذلك إليك لكن وعزتي وكبريائي وعظمتي وجبروتي، لأخرجن من قال لا إله إلا اللّه"
أي أتفضل بإخراجهم دون شفاعة شافع فهؤلاء هم الذين معهم مجرد الإيمان وهم الذين لم يؤذن في الشفاعة فيهم وإنما دلت الآثار أنه أذن لمن عنده شيء زائد على الإيمان من عمل صالح أو ذكر خفي، أو عمل من أعمال القلب، من شفقة على مسكين وخوف من اللّه ونية صادقة في عمل فاته، وجعل للشافعين من الملائكة والنبيين دليل عليه، وتفرد اللّه بعلم ما تكنه القلوب، والرحمة لمن ليس عنده سوى الإيمان، فقوله مثقال ذرة من إيمان ومن خير الصحيح أن معناه شيء زائد على مجرد الإيمان لأن مجرد الإيمان الذي هو تصديق لا يتجزأ، فعليك يا أخي بالإيمان، بأن تعتقد بقلبك دين الإسلام وتنطق مع ذلك بالشهادتين، فإن اقتصرت على أحدهما خلدت في نار جهنم التي وقودها الناس والحجارة، ولا تنفعك شفاعة شافع ثم عليك أن تحترز من المعاصي، فإن المعاصي بريد الكفر.فقد حكي أن تلميذاً للفضيل بن عياض حضرته الوفاة فدخل عليه الفضيل وجلس عند رأسه، وقرأ سورة يس. فقال يا أستاذ لا تقرأ هذه السورة فسكت ثم لقنه، فقال قل لا إله إلا اللّه، فقال لا أقولها لأني بريء منها ومات على ذلك فدخل الفضيل منزله وجعل يبكي أربعين يوماً لم يخرج من البيت ثم رآه في النوم وهو يسحب به إلى جهنم. فقال: بأي شيء نزع اللّه المعرفة عنك وكنت اعلم تلاميذتي? فقال بثلاثة أشياء:
أولها: بالنميمة، فإني قلت لأصحابي بخلاف ما قلت لك.وثانياً: بالحسد، حسدت أصحابي.وثالثاً: كان بي علة فجاء إلى طبيب فسألته عنها فقال: اشرب في كل سنة قدحاً من خمر فإن لم تفعل تبقى بك العلة فكنت أشربه نعوذ باللّه من السخط الذي لا طاقة لنا به.عذاب الكافرين في جهنم
قال اللّه تعالى)فَالَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤوسِهِمُ الْحَمِيمُ. يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ. وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ. كُلَّمَا أَرَادُاْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍ أُعِيدُواْ فِيهَا وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِِ.()تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ(
)إِذ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ. فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ(.
)وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِى كُلَّ كَفُورٍ. وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَ لَمْ نُعَمِرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ()إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّوِم طَعَامُ الأثِيِم كَالْمُهْلِ يَغْلىِ فيِ الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إلَى سَوَاءِ الْجَحِيِم ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأسِهِ مِنْ عَذَابِ الحَمِيِم ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الْكَرِيمُ(
)وَأَصْحَابُ الشِمَالِ مَا أَصْحابُ الشِمَالِ. فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ. وَظِلٍّ مِن يَحْمُومٍ.لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ. إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتَرَفِينَ. وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ. وَكَنُواْ يَقُولُونَ أَئِذا مِتْنَا وكُنَّا تُرَاباً وعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ. أَوَ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ. قُلْ إِنَّ الأَوَلِينَ وَالآخِرينَ. لَمَجْمُوعُونَ إلى مِيقَاتِ يَومٍ مَعْلُومٍ. ثُّمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالْونَ الْمُكَذِّبُونَ. لآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِن زَقُومٍ. فَمَالِؤنَ مِنْهَا البُطُونَ. فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الحَمِيمِ. فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ. هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ. نَحْنُ خَلَقْنكُمْ فَلَولا تُصَدِّقُونَ.( )خُذُوهُ فَغُلُّوهُ. ثُّمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ. ثُّمَّ في سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلِكُوهُ. إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤمِنُ بِالله الْعَظِيمِ. وَلاَ يَحَضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكينِ. فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ. وَلاَ طَعَامٌ إلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ. لاَّ يَأكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِؤُنَ.()هل أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ. وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ. عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ. تَصْلَى نَاراً حَامِيَةٌ. تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ. لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ. لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِى مِن جُوعٍ(

وفي كتاب الترمذي عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لما خلق اللّه الجنة قال لجبريل اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها وإلى ما أعد اللّه لأهلها فيها، ثم جاء فقال أي رب وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، ثم حفها بالمكاره، ثم قال يا جبريل اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها ثم جاء، فقال: أي رب وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد.قال فلما خلق اللّه النار، قال يا جبريل اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها، فقال: أي رب وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها، فحفها بالشهوات، ثم قال يا جبريل اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها، فقال: أي رب وعزتك لقد خشيت أن لا يبقى أحد إلا دخلها.وفي صحيح مسلم قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "ناركم هذه التي يوقدها ابن آدم جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم"، قالوا واللّه إن كانت لكافية يا رسول اللّه. قال: "إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً كلها مثل حرها".وذكر سفيان بن عيينة عن أبي هريرة. قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "ناركم هذه جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم ولولا أنها ضربت بالماء مرتين ما كان لأحد فيها منفعة".وفي كتاب الترمذي، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "أوقد على النار ألف سنة حتى احمرت ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت فهي سوداء مظلمة".
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: كنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذ سمع وجبة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتدرون ما هذا?" قال: قلنا اللّه ورسوله أعلم قال: "هذا حجر رُميَ به في النار منذ سبعين خريفاً فهو يهوي في النار الآن حتى انتهى إلى قعرها فسمعتم وجبتها".
وفي كتاب الترمذي عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "لو أن رضاضة مثل هذه وإشارة إلى مثل الجمجمة، أرسلت من السماء إلى الأرض، في مسيرة خمسمائة سنة لبلغت الأرض قبل الليل، ولو أنها أرسلت من رأس السلسلة لسارت أربعين خريفاً الليل والنهار قبل أن تبلغ أصلها أو قعرها".وفي صحيح البخاري عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول اللّه:لأهون أهل النار عذاباً يوم القيامة، لو أن لك ما في الأرض من شيء، أكنت تفتدي به? فيقول نعم، فيقول: قد أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا أن تشرك".
وفي صحيح مسلم عن النعمان بن بشير رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "إن أهون أهل النار عذاباً من له نعلان وشراكان من نار يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل ما يرى أن أحداً أشد منه عذاباً وإنه لأهونهم عذاباً".وفيه عن سمرة بن جندب أنه سمع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إن منهم من تأخذه النار إلى كعبيه ومنهم من تأخذه إلى حجزته ومنهم من تأخذه إلى عنقه".وفي مسند البزار عن هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "لو كان في المسجد مائة ألف أو يزيدون ثم تنفس رجل من أهل النار لأحرقهم".وفي كتاب الترمذي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "لو أن قطرة من الزقوم قطرت في الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم فكيف بمن يكون طعامه?".وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لسرادق النار أربعة جدر، وكثف كل جدار مسيرة أربعين سنة".قالصلى الله عليه وسلم: "لو أن دلواً من غساق تهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا".قال العلماء: عرق أهل النار وصديدهم.وقيل دموعهم يسقونها مع الحميم.وقال صلى الله عليه وسلم: "ويل واد في جهنم يهوى الكافر فيه أربعين خريفاً قبل أن يبلغ قعره والصعود جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفاً ويهوى كذلك أبداً".
وقال صلى الله عليه وسلم: "لو أن مقمعاً من حديد وضع على الأرض فاجتمع الثقلان ما نقلوه من الأرض. وقال: لو ضرب بمقمع من حديد الجبل لتفتت وصار غباراً".وفي كتاب الترمذي عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق يقول إني قد وكلت بثلاث، بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع اللّه إلهاً آخر، وبالمصورين".وفي كتاب الترمذي عن أبي أمامة رضي اللّه عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: )وَيُسْقَى مِن مَّاءٍ صَدِيدٍ. يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ(.قال يقرب إلى فيه فإذا أدنى منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره.يقول اللّه تعالى: )وَسُقُواْ مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ(.ويقول جل وعلا)وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِى الْوُجُوهَ(.
وفيه عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الحميم حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما في جوفه حتى يمرق من قدميه وهو الصهر، ثم يعاد كما كان".وفيه عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وهم فيها كالحون: قال تشويه النار فتتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته".وفي كتاب الترمذي قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "إن غلظ جلد الكافر اثنان وأربعون ذراعاً،وإن ضرسه مثل أُحد، وإن مجلسه في جهنم كما بين مكة والمدينة".وفي صحيح مسلم قال: ضرس الكافر أو ناب الكافر مثل أُحد وغلظ جلده مسيرة ثلاث.وقال: ما بين منكبي الكافر في النار مسيرة ثلاث للراكب المسرع.وروي عن ابن عمر رضي اللّه عنهما، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "إن الكافر ليسحب لسانه الفرسخ والفرسخين يتوطؤه الناس".وفي كتاب الترمذي وغيره عن أنس قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا فإن أهل النار يبكون في النار حتى تسيل دموعهم على وجوههم كأنها جداول حتى تنقطع الدموع فتسيل الدماء فتقرح العيون فلو أن سفناً أجريت فيها لجرت".وحكي عن شقيق البلخي أنه كان يوماً يعاتب نفسه ويوصيها ويقول: يا شقيق لا تعص اللّه إلا على حسب ما تطيق من عذابه واعمل لآخرتك على قدر حوائجك إليها، واطلب الرزق على قدر مقامك في الدنيا، واعمل لدار لا نفاذ لها فسوف ترى إذا انجلى الغبار أفرس تحتك أم حمار.وروي أن الربيع بن خثيم كان يذهب إلى ابن مسعود فمر بحانوت حداد فرأى الحديدة المحماة في الكير فغشي عليه، ولم يفق إلى الغد، فلما أفاق سئل عن ذلك? فقال: تذكرت كون أهل النار في النار.إخواني صححوا الإِيمان: وهو تصديق القلب، ولا يعتبر إلا مع التلفظ بالشهادتين حتى تنجوا من خلود نار جهنم واحرصوا كل الحرص على الإِتيان بكمال خصال الإِسلام حتى تنجوا من دخولها رأساً.
الخلود في النار للكافرين
قال اللّه تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).وفي كتاب الترمذي عن أبي الدرداء رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:
"يلقى على أهل النار الجوع فيعدل ما هم فيه من العذاب فيستغيثون بالطعام فيغاثون بطعام من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع، فيستغيثون بالطعام فيغاثون بطعام ذي غصة فيذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالشراب، فيستغيثون بالشراب فيرفع إليهم الحميم بكلاليب الحديد فإذا دنت من وجوههم شوت وجوههم فإذا دخلت بطونهم قطعت ما في بطونهم فيقولون ادعوا خزنة جهنم، فيقولون أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات، قالوا: بلى، قالوا: فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ظلال، قال: فيقولون ادعوا مالكاً فيقولون يا مالك ليقض علينا ربك، قال فيجيبهم إنكم ماكثون.قال الأعمش: ثبت أن بين دعائهم وإجابة مالك إياهم ألف عام، قال: فيقولون ادعوا ربكم، فلا أحد خير من ربكم فيقولون ربنا غلبت شقوتنا وكنا قوماً ضالين، ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون، قال فيجيبهم) اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ( .
قال: فعند ذلك يئسوا من كل خير وعند ذلك يأخذون في الزفير والحسرة والويل.وروى أن لهب النار يرفع أهل النار حتى يطيروا كما يطير الشرر فإذا رفعهم أشرفوا على الجنة وبينهم حجاب فنادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً? قالوا: نعم، فأذن مؤذن بينهم أن لعنة اللّه على الظالمين ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم اللّه قالوا: إن اللّه حرمها على الكافرين، فتردهم ملائكة العذاب بمقامع الحديد إلى قعر جهنم.قال: بعض المفسرين: هو معنى قول اللّه عز وجل: (كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ)وفي الكشاف وأنوار التنزيل عن ابن عباس رضي اللّه عنهما: إن لهم ست دعوات إذا دخلوا النار، يقولون ألف سنة: (رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَلِحاً).فيجابون: (وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي).فيقولون ألفاً: (قَالُواْ رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ)فيجابون: (ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ).فيقولون ألفاً: )يَمَلِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ(.فيجابون: )إِنَّكُم مَّاكِثُونَ(.فيقولون ألفاً: )رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ(.فيجابون: )أَوَ لَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبلُ مَالَكُم مِّن زَوَالٍ(.فيقولون ألفاً: )رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَلِحاً(.
فيجابون: )أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ(.فيقولون ألفاً: )رَبِّ ارْجِعُونِ. لَعَلِّى أَعْمَلُ صَالِحَاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا(.فيجابون: )اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ(.ثم لا يكون لهم فيها إلا زفير وشهيق وعواء.وفي صحيح مسلم عن عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنهما أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صار أهل الجنة إلى الجنة وصار أهل النار إلى النار أتى بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار ثم يذبح ثم ينادي منادٍ يا أهل الجنة لا موت ويا أهل النار لا موت فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحهم ويزداد أهل النار حزناً إلى حزنهم".وفي كتاب الترمذي: فلو أن أحداً مات فرحاً لمات أهل الجنة، ولو أن أحداً مات حزناً لمات أهل النار.فاتق اللّه يا أخي ولا تصغر ذنباً ولا تلق مثل هذا خلف ظهرك ظناً منك أنه إِنما يلحق الكفار.فقد روي البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا بلال قم فأذن لا يدخل الجنة إلا مؤمن".وإنه قال صلى الله عليه وسلم: "إن العبد ليعمل عمل أهل النار وإنه من أهل الجنة ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار وإنما الأعمال بالخواتيم".وقال الغزالي رحمه اللّه وكان شيخنا يقول: إذا بحال الكفار وخلودهم في النار فلا تأمن على نفسك فإن الأمر على الخطر ولا تدري ماذا يكون من العاقبة وماذا سبق لك في حكم الغيب ولا تغتر بصفاء الأوقات فإن تحتها غوامض الآفات.وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما في قوله تعالى: )فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(.هي الموت غير الشهادة.نصف دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقاً كثيراً ثم يقولون ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحداً، ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة قال أبو حفص الحداد: بريد الكفر كما أن الحمَّى بريد الموت.وقال حاتم الأصم: لا تغتر بموضع صالح فلا مكان أصلح من الجنة،فلقي آدم فيها ما لقي، ولا تغتر بكثرة العبادة فإن إبليس بعد طول تعبده لقي ما لقي،ولا تغتر بكثرة العلم فإن بلعام كان يحسن اسم اللّه الأعظم، فانظر ماذا لقي، ولا تغتر برؤية الصالحين فلا شخص أكبر من المصطفى فلم ينتفع بلقائه أقاربه وأعداؤه.
وعن أبي بكر الوراق رحمه اللّه، أنه قال: أكثر ما ينزع الإِيمان من العبد عند الموت، فنظرنا في الذنوب فلم نجد أنزع للإِيمان من ظلم العباد.
تنح ما استطعت على ذنوبك بالغدو وبالأصيل إن كنت ترغب في الجنان، وظل مولاك الظليل.قال في إكمال المعلم: اعلم أن الإِجماع قد وقع على أن الكفار لا تنفعهم أعمالهم ولا يثابون عليها بتخفيف عذاب، ولا بنعيم لكنهم بإضافة بعضهم إلى الكفر كبائر المعاصي وأعمال الشر وأذى المؤمنين يزدادون عذاباً.كما قال اللّه تعالى: )مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ. قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ. وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ. وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ آلْخَائِضِينَ. وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ. حَتَّى أَتَنَا الْيَقِينُ. فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَعَةُ الشَّافِعِينَ(
فليس إذن عذاب أبي طالب كعذاب أبي جهل.وذكر عن الحسن أن آخر من يخرج من النار يقال له هناد عذب ألف عام ينادي: يا حنان، يا منان، فبكى الحسن وقال: يا ليتني كنت هناداً، فتعجبوا منه، فقال: ويحكم أليس يوماً يخرج ولاشك أنه رحمه اللّه كان عالماً بأحكام الآخرة.وقال يحيى بن معاذ: لا تدري أي المصيبتين أعظم، أفوت الجنان، أم دخول النيران، أما الجنة فلا صبر عنها وأما النار فلا صبر عليها وعلى كل حال، فوت النعيم أيسر من مقاساة ا لجحيم ، ثم الطامة الكبرى، والمصيبة العظمى هي في الخلود إذ أي قلب يحتمله وأي نفس تصبر عليه.
الجنة وما لأهلها من النعيم
قال اللّه تعالى: )وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَبِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَلِدُونَ(.والسابقون أي إلى الهجرة أو الخير.)وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُون. أُوْلئِكَ الْمُقَرَّبُونَ. فِي جَنَّتِ النَّعِيِم. ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ. وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ. عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ(.أي منسوجة بالذهب مشبكة بالجواهر )مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَبِلِينَ( وجوه بعضهم إلى بعض ليس أحد وراء أحد.)يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَنٌ مُّخَلَّدُونَ(ولا يشيبون ولا يتغيرون.)بِأَكْوَابٍ( جمع كوب إناء لا عروة ولا خرطوم له.)وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ. لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ( أي لا ينشأ عنها صداعهم ولا ذهاب عقلهم.)وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ. وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ. وَحُورٌ عِينٌ. كَأَمْثَلِ الُّلؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ( أي المصون عما يضر به.)جَزَاءَ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ. لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً( عبثاً باطلاً.)وَلاَ تَأْثِيماً( أي ما يوقع في الإِثم.)إِلاَّ قِيلا سَلاَماً سَلاَماً( أي إلا التسليم منهم بعضهم على بعض.)وَأَصْحَابُ الْيِمَينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ(وهم الأبرار دون المقربين.)فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ( أي لا شوك له أو مثنى الغصن من كثرة الحمل.)وَطَلْحٍ(مَّنضُودٍ(موز.) متراكم قد نضد بالحمل من أسفله إلى أعلاه.)وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ( أي منبسط أو دائم.وفي الحديث: "إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام ما يقطعها )وَمَاءٍ مَّسْكُوبٍ( أي مصبوب يجري على وجه الأرض من غير أخدود.)وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ. لاَّ مَقْطُوعَةٍ( في زمان )وَلاَ مَمنْوُعَة( من أحد )وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ( كما بين السماء والأرض )وُجُوهٌ يَوَمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ( ذات بهجة )لّسَعْيِها( في الدنيا )رَاضِيَةٌ( في الآخرة لما رأت من ثوابها)في جَنَّةٍ عَالِيَة( المحل أو القدر)لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لَغِيَةً( لغواً )فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ. فِيَها سُرُرٌ مَّرْفُعَةٌ( رفيعة السمك إذا أراد أن يجلس عليها صاحبها تواضعت له ثم ترتفع )وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ( بين أيديهم )وَنَمَارِقُ( وسائد )مَصْفُوفَةٌ( بعضها بجنب بعض )وَزَرَابِىُّ( بسط فاخرة. )مَبْثُوثَةٌ( مبسوطة.وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "قال اللّه تعالى: )أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر(.اقرءوا إن شئتم: )فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعيُنٍ(.قال أهل اللغة قرة أعين يعبر بها عن المسرة، ورؤية ما يحب الإِنسان ويوافقه.وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة" اقرءوا إن شئتم )وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ( ولقاب قوس أحدكم في الجنة خير مما طلعت عليه الشمس أو تغرب".وفي كتاب الترمذي: ما في الجنة شجرة إلا وساقها من ذهب.وفي كتاب الترمذي عن أبي هريرة قال: قلت يا رسول اللّه مم خلق الخلق? قال: "من الماء". قلنا الجنة ما بناؤها? قال: "لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، وملاطها المسك الأذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، من يدخلها ينعم ولا ييأس، ويخلد ولا يموت ولا يفنى شبابهم، ولا تبلى ثيابهم".وفي صحيح مسلم: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والتي تليها على أضواء كوكب دري في السماء، لكل امرئ منهم زوجتان اثنتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم، وما في الجنة أعزب".وفيه أيضاً: "...لا يبولون، ولا يتغوطون، ولا يمتخطون، ولا يتفلون أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، ومجامرهم الألوة، وأزواجهم الحور العين، أخلاقهم على خلق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم، ستون ذراعاً في السماء".
وفيه أيضاً: "... لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب واحد، يسبحون اللّه بكرة وعشية".وفيه قال: يأكل أهل الجنة فيها ويشربون، ولا يتفلون، ولا يبولون ولا يتغوطون، ولا يمتخطون، قالوا: فما بال الطعام? قال: جشاء ورشح كرشح المسك يلهمون التسبيح والتحميد كما تلهمون النفس.وفي الصحيحين قال: "إن أهل الجنة يتراؤون أهل الغرف من فوقهم كما يتراؤون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق والمغرب لتفاضل ما بينهم" قالوا: يا رسول اللّه تلك منزل الأنبياء لا يبلغها غيرهم، قال: "بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا باللّه وصدقوا المرسلين".وفي مسند البراز عن عبد اللّه بن مسعود قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "إنك لتنظر إلى الطير في الجنة فتشتهيه فيجيء مشوياً بين يديك".وفي كتاب الترمذي عن علي رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "إن في الجنة لغرفاً يرى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها" فقام إليه أعرابي فقال: لمن هي يا رسول اللّه فقال: "هي لمن أطاب الكلام وأطعم الطعام وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام".وفي كتاب الترمذي عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن ما يقل ظفر مما في الجنة بدا لتزخرف له ما بين خوافق السموات والأرض، ولو أن رجلاً من أهل الجنة اطلع فبدا أساوره لطمس ضوؤه ضوء الشمس كما تطمس الشمس ضوء النجوم".وفي كتاب الترمذي عن علي رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "إن في الجنة لسوقاً متجمعاً ما فيها شراء ولا بيع إلا صور من الرجال والنساء فإذا اشتهى الرجل صورة دخل فيها".وفي كتاب الترمذي عن سليمان بن بريدة عن أبيه أن رجلاً قال يا رسول اللّه هل في الجنة من خيل? قال: "إن اللّه أدخلك الجنة فلا تشاء أن تحمل فيها على فرس من ياقوتة حمراء تطير بك في الجنة، حيث شئت إلا حملت" وسأله رجل فقال: يا رسول اللّه هل في الجنة من إبل فقال: "إن يدخلك اللّه الجنة يكن لك فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك".وفي كتاب الترمذي قال صلى الله عليه وسلم: "من مات من أهل الجنة من صغير أو كبير يردون بني ثلاث وثلاثين في الجنة لا يزيدون عليها أبداً، وكذلك أهل النار"
وقال: "إن عليهم التيجان أدنى لؤلؤة منها لتضيء ما بين المشرق والمغرب".وفي كتاب الترمذي قال: "إن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض والفردوس أعلاها درجة، منها تفجر أنهار الجنة الأربعة ومن فوقها يكون العرش، فإذا سألتم اللّه فاسألوه الفردوس".وحكي أن أصحاب الثوري كلموه فيما كانوا يرون من خوفه واجتهاده ورثة حاله، فقالوا: يا أستاذ لو نقصت من هذا الجهد نلت مرادك أيضاً إن شاء اللّه تعالى، فقال سفيان كيف لا أجتهد وقد بلغني أن أهل الجنة يكونون في منازلهم فيتجلى لهم نور يضيء له الجنان الثمان فيظنون أن ذلك نور من عند الرب سبحانه وتعالى فيخرون ساجدين فينادون أن ارفعوا رؤوسكم ليس الذي تظنون إنما هو نور جارية تبسمت في وجه صاحبها ثم أنشد يقول:
ما ضر من كان الفردوس مسكنه ماذا تحمل من بؤس وإقـتـار
تراه يمشي كئيباً خـائفـاً وجـلا إلى المساجد يمشي بين أطمـار
يا نفس مالك من صبر على النار قد حان أن تقبلي من بعد إدبـار
وقيل لوهب بن منبه: أليس لا إله إلا اللّه مفتاح الجنة? قال بلى ولكن ليس مفتاح إلا له أسنان فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك، ذكره البخاري في صحيحه.وروي أن اللّه عز وجل أوحى إلى موسى: )ما أقل حياء من يطمع في جنتي بغير عمل، كيف أجود برحمتي على من بيخل بطاعتي....(وعن شهر بن حوشب: طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب وانتظار الشفاعة بلا سبب نوع من الغرور، وارتجاء الرحمة ممن لا يطاع حمق وخذلان.
صفة الحور العين
قال الله تعالى: )وَحُورٌ عِينٌ. كَأمْثَالِ الُّلؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ جَزَاءَ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ(وقال تعالى: )كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ(.وقال: )إِنَّا أَنشَأْنَهُنَّ إِنشَاءً. فَجَعَلْنَهُنَّ أَبْكَاراً. عُرُباً أَتْرَاباً. لأَصْحَبِ الْيَمِينِ(
وفي صحيح مسلم: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها ستون ميلاً في كل زاوية منها للمؤمن أهل لا يراهم الآخرون يطوف عليهم المؤمن، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم، وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن: أي صفة الكبرياء والعظمة فهو بكبريائه وعظمته لا يريد أن يراه أحد من خلقه حتى يأذن لهم في دخول جنة عدن فيرونه فيها".وفي صحيح مسلم قال: "إن في الجنة لسوقاً يأتونها كل جمعة فتهب ريح الشمال فتحثو في وجوههم وثيابهم فيزدادون حسناً وجمالاً، فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسناً وجمالاً، فيقول لهم أهلوهم، واللّه لقد ازددتم حسناً وجمالاً".
وفي كتاب الترمذي قال: "إن أول زمرة يدخلون الجنة يوم القيامة ضوء وجوههم على مثل ضوء القمر ليلة البدر، والزمرة الثانية على مثل أحسن كوكب دري في السماء لكل رجل منهم زوجتان على كل زوجة سبعون حلة يرى مخ ساقها من ورائها".وفي كتاب النسائي عن أنس قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "يعطى المؤمن في الجنة قوة كذا وكذا من الجماع" قيل يا رسول اللّه أو يطيق ذلك قال: "يعطى قوة مائة".وفي كتاب الترمذي عن علي قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "إن في الجنة لمجتمعاً للحور العين بأصوات لم يسمع الخلائق مثلها يقلن: نحن الخالدات فلا نبيد، ونحن الناعمات فلا نبؤس، ونحن الراضيات فلا نسخط، فطوبى لمن كان لنا وكنا له".وفي كتاب الترمذي: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "لغدوة في سبيل اللّه أو روحة خير من الدنيا وما فيها ولقاب قوس أحدكم أو موضع يده في الجنة خير من الدنيا وما فيها ولو ان من نساء أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما ولملأت ما بينهما ريحاً ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها".قال في الصحاح النصيف: الخمار.وفي كتاب الترمذي قال: رسول اللّه صلى الله عليه وسلم "أدنى أهل الجنة الذي له ثمانون ألف خادم واثنتان وسبعون زوجة وتنصب له قبة من لؤلؤ وزبرجد وياقوت، كما بين الجابية إلى صنعاء".وفي مسند البزار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل يارسول الله انفضي إلى نسائنا في الجنة? فقال"أي والذي نفسي بيده إن الرجل ليفضي في اليوم الواحد إلى مائة عذراء".وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم عادوا أبكاراً".وفي صحيح مسلم عن المغيرة بن شعبة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سأل موسى عليه السلام ربه ما أدنى أهل الجنة منزلة? قال: هو رجل يجئ بعد ما أدخل أهل الجنة الجنة، فيقال له ادخل الجنة، فيقول: أي رب وكيف وقد نزل الناس منازلهم، وأخذوا أخذاتهم، فيقال له أترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا فيقول رضيت رب، فيقول هذا لك وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك، فيقول رضيت رب،قال: رب فأعلاهم منزلة، قال: أولئك الذين غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها فلم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر".قال ومصداقه من كتاب الله تعالى:
)فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ(
وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "إن اللّه تعالى يقول لأهل الجنة يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك فيقول: هل رضيتم? فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك فيقول ألا أعطيكم أفضل من ذلك، فيقولون ياربنا وأي شيء أفضل من ذلك? فيقول: أحل لكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً".إخواني: اتركوا الدنيا واكدحوا للآخرة وارفضوا حب نساء الدنيا واشتروا الحور الفاخرة فإنها تدرك بأيسر الأثمان وتكون معكم مخلدة في الجنان.وروي عن مالك بن دينار رضي الله عنه أنه كان يوماً ماشياً في أزقة البصرة، فإذا هو بجارية من جواري الملوك راكبة ومعها الخدم، فلما رآها مالك نادى أيتها الجارية: أيبيعك مولاك? فقالت: كيف قلت يا شيخ? قال: أيبيعك مولاك? قالت: ولو باعني أكان مثلك يشتريني قال: نعم وخيراً منك، فضحكت وأمرت به أن يحمل إلى دارها، فحمل فدخلت إلى مولاها فأخبرته فضحك وأمر أن يدخل به إليه، فأدخل، فألقيت له الهيبة في قلب السيد، قال: ما حاجتك، فقال بعني جاريتك، قال: أو تطيق أداء ثمنها? قال ثمنها عندي نواتان مسوستان فضحكوا، قال وكيف كان ثمنها عندك هذا? قال: لكثرة عيوبها، قال: وما عيوبها. قال: إن لم تتعطر دفرت، وإن لم تستك بخرت، وإن لم تتمشط وتدهن قملت وشعنت، وإن تعمرت عن قليل هرمت، ذات حيض وغائط وبول وأقذار وحزن وغم وأكدار، ولعلها أن لا تودك إلا لنفسها، ولا تحبك إلا لتنعمها، لا تفي بعهدك، ولا تصدق في ودك، ولا يخلف عليها أحد بعدك إلا رأته مثلك، وأنا آخذ بون ما سألت في جاريتك من الثمن جارية خلقت من سلالة الكافور ومن المسك والجوهر والنور لو مزج ريقها أجاج البحر لطاب، ولو دعي بكلامها ميت لأجاب، ولو بدا معصمها للشمس لأظلمت دونه وكسفت، ولو بدا في الظلماء لأنارت به وأشرقت، ولو واجهت الآفاق بحليها وحللها لتعطرت به وتزخرفت، نشأت من بين رياض المسك والزعفران وقضبان الياقوت والمرجان، وقصرت في خيام النعيم وغذيت بماء التسنيم،لا تخلف عهدها، ولا تبدل ودها فأيهما أحق برفع الثمن? قال التي وصفت، قال فإنها الموجودة الثمن القريبة الخطب من كل زمن قال فما ثمنها رحمك الله? قال أيسر المبذول لنيل الخير المأمول أن تتفرغ ساعة في ليلك فتصلي ركعتين تخلصهما لربك وأن يوضع طعامك فتذكر جائعاً فتؤثره للّه تعالى على شهوتك وأن ترفع حجراً أو قذراً وأن تقطع أيامك بالبلغة والقلة وترفع همك عن دار الغرور والغفلة فتعيش الدنيا بعز القناعة وتأتي إلى موقف الكرامة آمناً غداً وتنزل الجنة دار النعيم في جوار المولى الكريم مخلداً.فقال يا جارية أسمعت ما قال شيخنا هذا? قالت نعم قال أفصدق أم كذب قالت بل صدق وبر ونصح قال فأنت إذاً حرة للّه تعالى، وضيعة كذا وكذا دقة عليك، وأنتم أيها الخدم أحرار وضيعة كذا وكذا لكم، وهذه الدار بما فيها صدقة مع جميع مالي في سبيل اللّه، ثم مد يده إلى ستر خشن كان على بعض أبوابها فاجتذبه وخلع جميع ما كان عليه واستتر به فقالت الجارية لا عيش بعدك يا مولاي فرمت بكسوتها ولبست ثوباً خشناً وخرجت معه فودعهما مالك بن دينار ودعا لهما وأخذ طريقاً وأخذا طريقاً غيره فتعبدا جميعاً حتى جاء الموت فنقلهما على حال العبادة.رحمهما الله ورضي الله عنهما ونفعنا بهما وبسائر الصالحين، اللهم يسر علينا متابعتهم وأوصل إلينا فتوحاتهم وأدم لنا بركاتهم وألحقنا بهم وأحشرنا في زمرتهم وأدنا هداهم وأسلكنا طريقهم آمين.
رؤية اللّه تبارك وتعالى في الجنة
قال الله تعالى: )وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ. إلَى رَبِّها نَاضِرةٌ. وَوُجُوهٌ يَوْمَئذٍ بَاسِرَةٌ. تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ(وفي صحيح مسلم عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول اللّه تبارك وتعالى أتريدون شيئاً أزيدكم? فيقولون ألم تبيض وجوهنا، ألم تدخلنا الجنة وتنجينا من النار، قال فيرفع الحجاب فينظرون إلى وجه اللّه تعالى فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم ثم تلا )لِلَّذينَ أحْسَنُوا الحُسْنى وَزِيَادَةٌ(
قال العلماء الحسنى الجنة والزيادة هي النظر إلى وجه اللّه تعالى الكريم اللهم ارزقنا ذلك بفضلك.وروى الإمام أحمد والترمذي عن ابن عمر رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم "إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وزوجاته ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على اللّه من ينظر الى وجهه تعالى غدوة وعشية ثم قرأ: )وُجُوهٌ يَوْمِئّذٍ نَاضِرَةٌ. إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ(.
وفي الصحيحين عن جرير بن عبد اللّه قال: "نظر رسول اللّه إلى القمر ليلة البدر قال إنكم سترون ربكم عياناً كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوه ثم قرأ: )وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا(.
وفي كتاب الترمذي عن سعيد بن المسيب أنه لقي أبا هريرة فقال اسأل اللّه أن يجمع بيني وبينك في سوق الجنة فقال سعيد أفيها سوق? قال نعم أخبرني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم "أن أهل الجنة إذا دخلوها نزلوا فيها بفضل أعمالهم ثم يؤذن لهم في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا فيزورون ربهم لهم عرشه ويتبدى لهم في روضة من رياض الجنة فتوضع لهم منابر من نور ومنابر من لؤلؤ ومنابر من ياقوت ومنابر من زبرجد ومنابر من ذهب ومنابر من فضة ويجلس أدناهم وما فيهم دنئ على كثبان المسك والكافور ما يرون أن أصحاب الكراسي بأفضل منهم مجلساً".قال أبو هريرة: قلت يا رسول اللّه وهل نرى ربنا قال "نعم هل تتمارون في رؤية الشمس والقمر ليلة البدر?" قلنا لا، قال "كذلك لا تتمارون في رؤية ربكم ولا يبقى في ذلك المجلس إلا حاضرة اللّه محاضرة حتى يقول للرجل منهم يا فلان ابن فلان أتذكر يوم قلت كذا وكذا فيذكره ببعض غدراته في الدنيا فيقول أفلم تغفر لي فيقول فبسعة مغفرتي بلغت منزلتك هذه فبينما هم على ذلك غشيتهم سحابة من فوقهم فأمطرت عليهم طيباً لم يجدوا مثل ريحه شيئاً قط ويقول ربنا قوموا إلى ما أعددت لكم من الكرامة فخذوا ما اشتهيتم فيأتون سوقاً قد حفت بهم الملائكة فيها ما لم تنظر العيون إلى مثله ولم تسمع الآذان ولم يخطر على القلوب فيجمع لنا ما اشتهينا ليس يباع فيها ولا يشتري وفي ذلك السوق يلقى أهل الجنة بعضهم بعضاً".قال "فيقبل الرجل ذو المنزلة المرتفعة فيلقى من دونه وما فيهم دنئ فيروعه ما يرى من اللباس فما ينقضي آخر حديثه حتى يتخيل عليه ما هو أحسن منه، وذلك أنه لا ينبغي لأحد أن يحزن فيها ثم ننصرف إلى منازلنا فتتلقانا أزواجنا فيقلن مرحباً وأهلاً لقد جئت وإن بك من الجمال أفضل مما فارقنا فنقول إنا جالساً اليوم ربنا الجبار ويحق لنا أن ننقلب بمثل ما انقلبنا.قال بعض السادات رأيت غلاماً في البرية وهو قائم يتعبد وليس معه أحد قد انقطع عن العمارة والناس فسلمت عليه وقلت له يا فتى أنت بلا معين ولا رفيق، فقال بلى وعزته معي المعين والرفيق، فقلت فأين المعين والرفيق? فقال هو فوقي بقدرته ومعي بعلمه وحكمته وبين يدي بهدايته وعن يميني بنعمته وعن شمالي بعصمته، قال فلما سمعت منه هذا الكلام قلت له هل لك في المرافقة فقال هيهات مرافقتك تشغلني عن خدمته وما أحب أن يكون هذا لي ولي ملك الدنيا من شرقها إلى غربها فقلت له أما تستوحش في هذا المكان فقال لي يا هذا من كان المولى حبيبه وأنيسه كيف يستوحش، فقلت من أين تأكل? فقال يا هذا الذي غذائي برفقه في ظلمة الأحشاء صغيراً تكفل بي كبيراً ولي عنده رزق معلوم وله وقت محتوم فسألته الدعاء فقال لي حجب اللّه طرفك عن معصيته وملأ قلبك بخشيته ولا جعلك ممن يشتغل بغيره عن خدمته ثم ذهب ليقول فتعلقت به وقلت له يا أخي متى ألقاك فتبسم وقال أما بعد يومك هذا فلا تحدث به نفسك في الدنيا ويوم القيامة يوم يجتمع فيه الناس فإن كنت ممن تلقاني فاطلبني في جملة الناظرين إلى اللّه فقلت له: ومن أين عرفت ذلك? فقال به وعدني ربي، ذلك أني غضضت طرفي عن النظر إلى المحرمات ومنعت نفسي من تناول الشهوات وخلوت بخدمته في الليالي المظلمات، ثم غاب عني فما رأيته.اللهم اجعلنا ممن اتصفت بهذه الصفات الثلاث فنظفر بلقائك يوم الدين ومن الذين يقول لهم خزنة الجنة إذا جاؤوها: )سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ(.
وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

أرشاد العباد الي طريق الرشاد


أرشاد العباد الي طريق الرشاد

*******************








كتبه
***********
رشاد متولي
***************
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
1-الإخلاص
الإخلاص هو أولها وأهمها وأعلاها وأساسها، هو حقيقة الدين ومفتاح دعوة الرسل عليهم السلام
* وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء*
*ألا لله الدين الخالص*
الإخلاص هو لب العبادة وروحها، قال ابن حزم:
النية سر العبودية وهي من الأعمال بمنزلة الروح من الجسد، ومحال أن يكون في العبودية عمل لا روح فيه، فهو جسد خراب.
والإخلاص هو أساس قبول الأعمال وردها فهو الذي يؤدي إلى الفوز أو الخسران، وهو الطريق إلى الجنة أو إلى النار، فإن الإخلال به يؤدي إلى النار وتحقيقه يؤدي إلى الجنة.
معنى الإخلاص
خلص خلوصاً خلاصاً، أي صفى وزال عنه شوبه، وخلص الشيء صار خالصاً وخلصت إلى الشيء وصلت إليه، وخلاص السمن ما خلص منه. فكلمة الإخلاص تدل على الصفاء والنقاء والتنزه من الأخلاط والشوائب. والشيء الخالص هو الصافي الذي ليس فيه شائبة مادية أو معنوية. وأخلص الدين لله قصد وجهه وترك الرياء. وقال الفيروز أبادي: أخلص لله ترك الرياء.
كلمة الإخلاص كلمة التوحيد، والمخلصون هم الموحدون والمختارون ،
تعريف الإخلاص في الشرع
قال ابن القيم –رحمه الله -:
هو إفراد الحق سبحانه بالقصد في الطاعة أن تقصده وحده لا شريك له.
وتنوعت عبارات السلف فيه، فقيل في الإخلاص:
1-أن يكون العمل لله تعالى، لا نصيب لغير الله فيه.
2-إفراد الحق سبحانه بالقصد في الطاعة.
3-تصفية العمل عن ملاحظة المخلوقين.
4-تصفية العمل من كل شائبة.
المخلص هو الذي لا يبالي لو خرج كل قدر له في قلوب الناس من أجل صلاح قلبه مع الله عز وجل،
ولا يحب أن يطلع الناس على مثاقيل الذر من عمله.
قال تعالى:
*وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء*
وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم :
*قل الله أعبد مخلصاً له ديني*
* قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين*
قال تعالى:
*الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً*
أحسن عملاً أي أخلصه وأصوبه.
قيل للفضيل بن عياض الذي ذكر هذا: ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل وإن لم يكن خالصاً وكان صواباً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص أن يكون لله ، والصواب أن يكون موافقاً للسنة ، ثم قرأ :
*فمن كان يرجو رحمة ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً*
وقال تعالى:
*ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن* يعني أخلص القصد والعمل لله ، والإحسان متابعة السنة، والذين يريدون وجه الله فليبشروا بالجزاء
* واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه*
* ذلك خير للذين يريدون وجه الله *
* وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي مالها يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى*
وأما أهل النقيض وأهل الرياء فإن الله ذمهم وبيّن عاقبتهم فقال:
*من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار*
*من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً*
* من كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله في الآخرة من نصيب*
* ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط*
وقد مدح الله المخلصين : *إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً*
*لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً*
*من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه*
في غزوة أحد أراد الله الابتلاء والتمحيص فقال:
* منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة*
وقال صلى الله عليه وسلم : *إنما الأعمال بالنيات*
إنه أهم حديث، علمنا إياه صلى الله عليه وسلم في كل شيء، في الصلاة والصيام والحج وغيرها..
قال صلى الله عليه وسلم : (( من غزا في سبيل الله ولم ينوي إلا عقالاً فلهو ما نوى))..، كذلك فإن بعث الناس على حسب نيتهم : ((إنما يبعث الناس على نياتهم))..
أهمية الإخلاص
1- النجاة تكون بسببه في الآخرة.
2- اجتماع القلب في الدنيا وزوال الهم لا يكون إلا به : (( من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه وفرق عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر عليه )).
3- مصدر رزق عظيم للأجر وكسب الحسنات ((إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليه حتى ما تجعل في فم امرأتك)) {رواه البخاري}.
4- ينجي من العذاب العظيم يوم الدين فقد أخبرنا صلى الله عليه وسلم عن أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة وهم متصدق أنفق ليقال جواد، وقاريء تعلم العلم وعلمه ليقال عالم، و مجاهد قاتل ليقال جريء..، وهذا الحديث حدث به أبو هريرة فكان يغشى عليه من هوله كلما أراد التحديث به، ويمسح وجهه بالماء حتى استطاع التحديث به. وفي مجال عدم الإخلاص في طلب العلم يقول صلى الله عليه وسلم : ((من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لم يتعلمه إلا ليصيب به عرض من عرض الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة))، وقال: (( من تعلم العلم ليماري به السفهاء أو ليباهي به العلماء أو ليصرف به وجوه الناس إليه فهو في النار)).
الإخلاص يريح الناس يوم يقول الله للمرائين اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون بأعمالكم في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء.
الإخلاص ينجي الإنسان من حرمان الأجر و نقصانه ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل غزى يلتمس الأجر والذكر فقال لا شيء له"ثلاثاً" إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً وابتغي به وجهه.
ابن مكرز رجل من أهل الشام قال : يا رسول الله رجل يريد الجهاد في سبيل الله وهو يبتغي عرضاً من عرض الدنيا فقال صلى الله عليه وسلم : لا أجر له. فأعظم ذلك الناس فقالوا عد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلعلك لم تفهمه فقال له لا أجر له.
قال صلى الله عليه وسلم : (( أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)).
كذلك الإخلاص هو أساس أعمال القلوب ، وأعمال الجوارح تبع ومكمل له، الإخلاص يعظم العمل الصغير حتى يصبح كالجبل ، كما أن الرياء يحقر العمل الكبير حتى لا يزن عند الله هباء(( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً)).
قال ابن المبارك: (( رب عمل صغير تكثره النية ورب عمل كبير تصغره النية)).
الإخلاص مهم جداً لأن أغلب الناس يعيشون في صراعات داخلية ويعانون من أشياء فحرموا البركة والتوفيق إلا من رحمه الله، فكيف يكون النصر و تعلم العلم إلا من المخلصين، الإخلاص مهم في إنقاذنا من الوضع الذي نعيش فيه، فقد أصبح عزيزاً نادراً قليلاً، مشاريع ودعوات تلوثت بالرياء، حركات إسلامية دمرت بسبب افتقاد الإخلاص وبعد أن أريد بها الرئاسة والجاه والمال..
يقول ابن أبي جمرة وهو من كبار العلماء: وددت لو أنه كان من الفقهاء من ليس له شغل إلا أن يعلم الناس مقاصدهم في أعمالهم ويقعد للتدريس في أعمال النيات ليس إلا، فإنه ما أتى على كثير من الناس إلا من تضييع ذلك.
ومن فوائد الإخلاص أنه يقلب المباحات إلى عبادات وينال بها عالي الدرجات، قال أحد السلف: إني لأستحب أن يكون لي في كل شيء نية حتى في أكلي ونومي ودخولي الخلاء وكل ذلك مما يمكن أن يقصد به التقرب إلى الله. لأن كل ما هو سبب لبقاء البدن وفراغ القلب للمهمات مطلوب شرعاً.
النية عند الفقهاء: تمييز العبادات عن العادات وتمييز العبادات عن بعضها البعض، إرادة وجه الله عز وجل
الإخلاص ينقي القلب من الحقد والغل ويسبب قبول العمل لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً وابتغي به وجهه:
الإخلاص سبب للمغفرة الكبيرة للذنوب
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : والنوع الواحد من العمل قد يفعله الإنسان على وجه يكمل فيه إخلاصه فيغفر فيه كبائر، وإلا فأهل الكبائر كلهم يقولون لا إله إلا الله. كالبغي التي سقت كلباً فقد حضر في قلبها من الإخلاص ما لا يعلمه إلا الله فغفر الله لها.
تنفيس الكروب لا يحدث إلا بالإخلاص ، والدليل على ذلك حديث الثلاثة الذين حبستهم صخرة ففرج الله همّهم وكان منهم الرجل الذي وفى عاملاً أجره ونماه وصبر على ذلك سنين، وقد كان يقول كل واحد منهم اللهم إنك إن كنت تعلم أننا فعلنا ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه.
وبالإخلاص يرزق الناس الحكمة، ويوفقون للصواب والحق ((إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً))، وبالإخلاص يدرك الأجر على عمله وإن عجز عنه بل ويصل لمنازل الشهداء والمجاهدين وإن مات على فراشه((ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً أن لا يجدوا ما ينفقون)). وقال صلى الله عليه وسلم : ((إن أقواماً خلفنا في المدينة ما سلكنا شعباً ولا وادياً إلا وهم معنا حبسهم العذر)){رواه البخاري}. وفي مسلم : إلا شاركوكم في الأجر.
بالإخلاص يؤجر المرء ولو أخطأ كالمجتهد والعالم والفقيه، وهو نوى بالاجتهاد استفراغ الوسع وإصابة الحق لأجل الله، فلو لم يصب فهو مأجور على ذلك..
فالمرء ينجو من الفتن بالإخلاص، ويجعل له حرز من الشهوات ومن الوقوع في براثن أهل الفسق والفجور، لذلك نجى الله يوسف عليه السلام من امرأة العزيز
(( ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه، كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين))((إلا عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق معلوم فواكه وهم مكرمون في جنات النعيم)).
- الإخلاص في التوحيد: قال صلى الله عليه وسلم : ((ما قال عبد لا إله إلا الله قط مخلصاً إلا فتحت له أبواب السماء حتى تفضي إلى العرش ما اجتنب الكبائر)).
- في السجود : قال صلى الله عليه وسلم : ((ما من عبد يسجد لله سجدة إلا رفعه الله بها درجة وحط بها عن خطيئة)).
- في الصيام: قال صلى الله عليه وسلم : ((من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) ، (( من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً)).
- في قيام الليل: قال صلى الله عليه وسلم : (( من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)).
- الإخلاص في ترك الحرام،المحبة في الله، الصدقة....(حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله).
- الإخلاص في الخروج إلى المساجد (( خرج للمسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخطو خطوة إلا رفعت له بها درجة وحطت به خطيئة، فإن صلى ما دامت الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه اللهم صل عليه اللهم صل عليه اللهم ارحمه، ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة)).
- الإخلاص في طلب الشهادة: (( من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه)).
- الإخلاص في إتباع الجنائز: (( من اتبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً وكان معه حتى يصلى عليها ويفرغ من دفنها فإنه يرجع من الأجر بقيراطين كل قيراط كأحد ومن صلى ثم رجع قبل أن يدفن فإنه يرجع بقيراط)).
- الإخلاص في التوبة: (( قصة قاتل المائة نفس وملائكة الرحمة)).
الإنسان يحتاج أن يبين لنفسه بالكلام أشياء مما ينويه حتى يزداد أجره كرجل ليس لديه مال فيقول لو كان لي مثل هذا عملت مثلما يعمل. قال صلى الله عليه وسلم : ((فهما في الأجر سواء)).
لقد مر في الأمة كثير من المخلصين كانت سيرتهم نبراساً لمن بعدهم وقدوة وخيراً، لذلك أبقى الله سيرتهم وذكرهم حتى يقتدي بهم من بعدهم وعلى رأس هؤلاء الأنبياء ، النبي محمد صلى الله عليه وسلم وحواريو الأنبياء والصحابة الذين فتحوا البلاد بإخلاصهم ومن بعدهم من التابعين..
يقول عبدة بن سليمان:كنا مع سرية مع عبد الله بن المبارك في بلاد الروم، فلما التقى ساعة فطعنه ازدحم الناس عليه ليعرفوا من هو فإذا هو يلثم وجهه ، فإذا هو عبد الله بن المبارك فقال لائماً أءنت يا أباعمر ممن يشنع علي.
يقول الحسن: إن كان الرجل جمع القرآن ولما يشعر به الناس، وإن كان الرجل لينفق النفقة الكثيرة ولما يشعر الناس به، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته ولم يشعر الناس به، ولقد أدركت أقواماً ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملونه في السر فيكون علانية أبداً.
لقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء ولا يسمع لهم صوت إن كان إلا همساً بينهم وبين ربهم (( ادعوا ربكم تضرعاً وخفية)).
يقول علي بن مكار البصري الزاهد : (( لأن ألقى الشيطان أحب إلي من أن ألقى فلاناً أخاف أن أتصنع له فأسقط من عين الله)) فقد كان السلف يخشون من قضية المجاملات.
قال الذهبي: يقول ابن فارس عن أبي الحسن القطان: (( أصبت ببصري وأظن أني عوقبت بكثرة كلامي أثناء الرحلة)) قال الذهبي: صدق والله فإنهم كانوا مع حسن القصد وصحة النية غالباً يخافون من الكلام وإظهار المعرفة.
قال هشام الدستوائي: ((والله ما أستطيع أن أقول إني ذهبت يوماً قط أطلب الحديث أريد به وجه الله عزوجل)).
يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ((فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وما بين الناس)).
ومن عجائب المخلصين ما حصل لصاحب النفق، حاصر المسلمون حصناً واشتد عليهم رمي الأعداء ، فقام أحد المسلمين وحفر نفقاً فانتصر المسلمون، ولا يُعرَف من هو هذا الرجل، وأراد مَسْلَمَة يريد أن يعرف الرجل لمكافأته،ولما لم يجده سأله بالله أن يأتيه، فأتاه طارق بليل وسأله شرطاً وهو أنه إذا أخبره من هو لا يبحث عنه بعد ذلك أبداً ، فعاهده، و كان يقول : (( اللهم احشرني مع صاحب النفق)).
وعمل الخلوة كان أحب إلى السلف من عمل الجلوة.
يقول حماد بن زيد : كان أيوب ربما حدث في الحديث فيرقّ وتدمع عيناه، فيلتفت و ينتخط ويقول ما أشد الزكام!!، فيظهر الزكام لإخفاء البكاء.
قال الحسن البصري: ((إن كان الرجل ليجلس المجلس فتجيئه عبرته فيردها فإذا خشي أن تسبقه قام وذهب وبكى في الخارج)).
يقول محمد بن واسع التابعي: (( إن كان الرجل ليبكي عشرين سنة وامرأته لا تعلم)).
للإمام الماوردي قصة في الإخلاص في تصنيف الكتب، فقد ألف المؤلفات في التفسير والفقه وغير ذلك ولم يظهر شيء في حياته لما دنت وفاته قال لشخص يثق به: الكتب التي في المكان الفلاني كلها تصنيفي وإنما إذا عاينت الموت و وقعت في النزع فاجعل يدك في يدي فإن قبضت عليها فاعلم أنه لم يقبل مني شيء فاعمد إليها وألقها في دجلة بالليل وإذا بسطت يدي فاعلم أنها قبلت مني وأني ظفرت بما أرجوه من النية الخالصة، فلما حضرته الوفاة بسط يده ، فأظهرت كتبه بعد ذلك.
كان علي بن الحسن يحمل الخبز بالليل على ظهره يتبع به المساكين بالظلمة ، فالصدقة تطفيء غضب الرب، وكان أهل بالمدينة يعيشون لا يدرون من أين معاشهم ، فلما مات عرفوا، و رأوا على ظهره آثاراً مما كان ينقله من القرب والجرب بالليل فكان يعول 100 بيت .
تلك الأحوال والقصص أظهرها الله ليكون أصحابها أئمة (( واجعلنا للمتقين إماماً)).
وهكذا كان أحدهم يدخل في فراش زوجته فيخادعها فينسل لقيام الليل وهكذا صام داود بن أبي هند أربعين سنة لا يعلم به أهله فكان يأخذ إفطاره ويتصدق به على المساكين ويأتي على العشاء..
وهذا أعرابي كان مع النبي صلى الله عليه وسلم وقال له أهاجر معك، فغنموا بعد خيبر وقسم للأعرابي وأصحابه وكان يرعى دوابهم فلما جاءوه قال للنبي صلى الله عليه وسلم ما هذا الذي وصلني؟ ما على هذا اتبعتك ولكن اتبعتك على أن أرمى إلى هاهنا بسهم فأموت فأدخل الجنة. قال صلى الله عليه وسلم : ((إن تصدق الله يصدقك))، فلبثوا قليلاً وهاجموا العدو وأثاب الله الأعرابي كما طلب فقيل أهو أهو قال صلى الله عليه وسلم : (( صدق الله فصدقه)) فكُفِّن في جبة النبي صلى الله عليه وسلم ثم قدمه فصلى عليه فكان فيما ظهر من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة (( اللهم هذا عبدك خرج مهاجراً في سبيلك وقتل شهيداً أنا شهيد على ذلك )).
ماذا قال بعض العلماء في الإخلاص..؟
قال إبراهيم بن أدهم: ما صدق الله عبداً أحب الشهرة.
قال بعضهم: ينبغي للعالم أن يتحدث بنية وحسن قصد، فإن أعجبه كلامه فليصمت وإن أعجبه الصمت فلينطق. فإن خشي المدح فليصمت ولا يفتر عن محاسبة نفسه فإنها تحب الظهور والثناء.
سُئِل سهل بن عبد الله التستوري : أي شيء أشد على النفس؟ قال: الإخلاص لأنه ليس لها فيه نصيب. فمع الإخلاص تنسى حظوظ النفس.
قال سفيان: ما عالجت شيئاً أشد عليّ من نيتي إنها تنقلب علي. إذا أراد أن يجاهد نفسه يجد تقلبات، ولا يدري أهو في إخلاص أم رياء، وهذا طبيعي أن يشعر أنه في صراع لا تسلم له نفسه دائماً فهو يتعرض لهجمات من الشيطان ، والنفس الأمارة بالسوء، وهذا فيه خير، أما من اطمأنت نفسه بحاله فهذه هي المشكلة.
قال ابن يحيى بن أبي كثير: تعلموا النية فإنها أبلغ من العمل.
قال الزبيد اليامي: إني أحب أن تكون لي نية في كل شيء حتى في الطعام والشراب.
عن داود الطائي : رأيت الخير كله إنما يجمعه حسن النية وكفاك به خيراً وإن لم تنضب. أي حتى وإن لم تتعب فإن ما حصلته من اجتماع نفسك لله وإخراج حظوظ النفس من قلبك ، هذا أمر عظيم.
أبو بكر الصديق رضي الله عنه ما سبق الناس بأنه كان أكثرهم صلاة وصيام بل بشيء وقر في قلبه.
قال داود: البر همة التقي، ولو تعلقت جميع جوارحه بحب الدنيا لردته يوماً نيته إلى أصلها.
قال يوسف بن أسباط: تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد.
قيل لنافع بن جبير : ألا تشهد الجنازة فقال: كما أنت حتى أنوي. أي انتظر حتى أجاهد نفسي.
قال الفضيل: إنما يريد الله عز وجل منك نيتك وإرادتك.
ومن أصلح الله سريرته أصلح الله علانيته ومن أصلح ما بينه وما بين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، وما أسر أحد سريرة إلا أظهرها الله في صفحات وجهه وفلتات لسانه.
والمخلص من يكتم حسناته كما يكتم سيئاته ومن شاهد في إخلاصه الإخلاص فإن إخلاصه يحتاج إلى إخلاص.

ومما قيل في الإخلاص:
1- نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق.
2- إفراد الحق سبحانه بالقصد والطاعة.
3- استواء عمل الظاهر والباطن.
4- من تزين للناس فيما ليس منه سقط من عين الله.
5- إنه سر بين الله والعبد، لا يعلمه ملك فيكتبه ولا شيطان فيفسده والله قد يعلم الملائكة ما يشاء من أحوال العبد.
6- الإخلاص أن لا تطلب على عملك شاهداً إلا الله، وإذا داوم عليه الإنسان رزقه الله الحكمة.
قال مكحول: ما أخلص عبد قط أربعين يوماً إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه.
قال أبو سليمان الداراني: إذا أخلص العبد انقطع عنه كثرة الوساوس والرياء.
كان السلف يستحبون أن يكون للرجل خبيئة من عمل صالح لا يعلم عنها زوجة ولا غيرها. وأعز شيء في الدنيا الإخلاص.
يقول يوسف بن الحسين: كم أجتهد في إسقاط الرياء من قلبي فينبت لي على لون آخر.
وكان من دعاء مطرف بن عبدالله: اللهم إني أستغفرك مما تبت إليك منه ثم عدت فيه، وأستغفرك مما جعلته لك على نفسي ثم لم أفِ لك به، وأستغفرك مما زعمت أنني أردت به وجهك فخالط قلبي منه ما قد علمته.

تبيهات في مسألة الإخلاص
1- متى يكون إظهار العمل مشروعاً؟
قال ابن قدامة: {فصل في بيان الرخصة في قصد إظهار الطاعات} قال: وفي الإظهار فائدة الإقتداء، ومن الأعمال ما لا يمكن الإسرار به كالحج والجهاد، والمظهر للعمل ينبغي أن يراقب قلبه حتى لا يكون فيه حب الرياء الخفي بل ينوي الإقتداء به {إذاً ينبغي أن نحسن نياتنا في الأعمال المظهرة لندفع الرياء وننوي الإقتداء لنأخذ الأجر}، قال ولا ينبغي للضعيف أن يخدع نفسه بذلك، ومثل الذي يظهره وهو ضعيف كمثل إنسان سباحته ضعيفة فنظر إلى جماعة من الغرقى فرحمهم فأقبل إليهم فتشبثوا به وغرقوا جميعاً.
المسألة فيها تفصيل:
1- الأعمال التي من السنة أن يكون عملها سرّاً يسرّ.
2- الأعمال التي من السنة أن يظهرها يظهرها.
3- الأعمال التي من الممكن أن يسرها أو يظهرها، فإن كان قوياً يتحمل مدح الناس وذمهم فإنه يظهرها وإن كان لا يقوى فيخفي، فإذا قويت نفسه فلا بأس في الإظهار لأن الترغيب في الإظهار خير.
ورد عن بعض السلف أنهم كانوا يظهرون بعض أعمالهم الشريفة ليقتدى بهم كما قال بعضهم لأهله حين الاحتضار : لا تبكوا علي فإني ما لفظت سيئة منذ أسلمت.
قال أبو بكر بن عياش لولده : يا بني إياك أن تعصي الله في هذه الغرفة فإني ختمت القرآن فيها اثنتا عشرة ألف ختمة. من أجل موعظة الولد، فمن الممكن أن يظهر المرء أشياء لأناس معينين مع بقاء الإخلاص في عمله لقصد صالح.
ترك العمل خوف الرياء
وهذا منزلق كشفه الفضيل بن عياض: ترك العمل لأجل الناس رياء والعمل من أجل الناس شرك والإخلاص أن يعافيك الله منهما. قال النووي: من عزم على عبادة وتركها مخافة أن يراه الناس فهو مرائي" لأنه ترك لأجل الناس" لكن لو ترك العمل ليفعله في الخفاء. فمن ترك العمل بالكلية وقع في الرياء، وكذلك من كان يستحب في حقه إظهار العمل فليظهره كأن يكون عاملاً يقتدى به أو أن العمل الذي يعمله المشروع فيه الإظهار.
أن من دعا إلى كتم جميع الأعمال الصالحة من جميع الناس ؛ هذا إنسان خبيث وقصده إماتة الإسلام، لذلك المنافقون إذا رؤوا أمر خير وسموه بالرياء، فهدفهم تخريب نوايا المسلمين وأن لا يظهر في المجتمع عمل صالح، فهؤلاء ينكرون على أهل الدين والخير إذا رؤوا أمراً مشروعاً مظهراً خصوصاً إذا أظهر عمل خير معرض للأذى فيظهره احتسابا لإظهار الخير فيستهدفه هؤلاء المنافقون فليصبر على إظهاره ما دام لله ، قال تعالى: (( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم)).
ينبغي أن نفرق بين الرياء ومطلق التشريك في العمل، فمتى يبطل العمل ؟ إذا حصل تشريك فيه ، ومتى يأثم ؟ ومتى لا يأثم؟
1- أن يعمل لله ولا يلتفت إلى شيء آخر ( أعلى المراتب).
2- أن يعمل لله ويلتفت إلى أمر يجوز الالتفاف إليه ، مثل رجل صام مع نية الصيام لله أراد حفظ صحته، ورجل نوى الحج والتجارة، ورجل جاهد ونظر إلى مغانم، ورجل مشى إلى المسجد وقصد الرياضة، ورجل حضر الجماعة لإثبات عدالته وأن لا يتهم، فهذا لا يبطل الأعمال ولكن ينقص من أجرهاـ والأفضل أن لا تكون موجودة ولا مشركة في العمل ولا داخلة فيه أصلاً.
3- أن يلتفت إلى أمر لا يجوز الالتفاف إليه من الرياء والسمعة وحمد الناس طلباً للثناء ونحو ذلك:
أ‌- إذا كان في أصل العمل فإنه يبطله كأن يصلي الرجل لأجل الناس.
ب‌- أن يعرض له خاطر الرياء أثناء العمل فيدفعه ويجاهده، فعمله صحيح وله أجر على جهاده.
جـ - أن يطرأ عليه الرياء أثناء العمل ولا يدفعه
و يستمر معه وهذا يبطل العمل.
4- أن يكون عمله الصالح للدنيا فقط، فيصوم لأجل الحمية والرجيم ولا يطلب الأجر، ويحج للتجارة فقط، ويخرج زكاة أموال لتنمو، ويخرج للجهاد للغنيمة ، فهؤلاء أعمالهم باطلة (( من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما يشاء لمن يريد ثم جعلنا له جهنم))، (( أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها)).
5- أن يكون عمله رياءً محضاً، وبالرياء يحبط العمل بل ويأثم به الإنسان، لأن هناك أشياء تبطل العمل ولا يأثم صاحبها كخروج ريح أثناء الصلاة، ومن الناس من يرائي في الفتوى للأغنياء والوجهاء وقد يكون لضعفه أمامهم ، فقال بعض السلف: (( إذا رأيت العالم على أبواب الغنى والسلطان فاعلم أنه لص)) ، أما الذي يذهب لقصد الإنكار والخير فلهو ما نوى.
هناك أشياء تظن من الرياء وليست منه :
- إذا حمدك الناس على الخير بدون قصد فهذا عاجل بشرى المؤمنين.
- رجل رأى العابدين فنشط للعبادة لرؤيته من هو أنشط منه.
- تحسين وتجميل الثياب والنعل وطيب المظهر والرائحة.
- كتم الذنوب وعدم التحدث بها ، فبعض الناس يظن أنك حتى تكون مخلصاً لابد من الإخبار بالذنوب، نحن مطالبون شرعاً بالستر، وكتم الذنوب ليس رياءً بل هو مما يحبّه الله، بل إن ظن غير ذلك تلبيس من الشيطان وإشاعة للفاحشة وفضح للنفس.
- اكتساب شهرة بغير طلبها، كعالم اشتهر وقصده منفعة الناس و بيان الحق ومحاربة الباطل والرد على الشبهات ونشر دين الله، فإن كانت هذه الأعمال وجاءت الشهرة تبعاً لها وليست مقصداً أصلياً فليس من الرياء.
- ليس من الرياء أن يشتهر المرء ولكن الشهرة يمكن أن توقع في الرياء!!
علامات الإخلاص
1- الحماس للعمل للدين.
2- أن يكون عمل السر أكبر من عمل العلنية.
3- المبادرة للعمل واحتساب الأجر.
4- الصبر والتحمل وعدم التشكي.
5- الحرص على إخفاء العمل.
6- إتقان العمل في السر.
7- الإكثار من العمل في السر.
2-التوكل علي الله
التوكل مقام جليل عظيم الأثر، بل ومن أعظم واجبات الإيمان وأفضل الأعمال والعبادات المقربة إلى الرحمن، وأعلى مقامات توحيد الله سبحانه وتعالى ، فإن الأمور كلها لا تحصل إلا بالتوكل على الله والاستعانة به، ومنزلة التوكل قبل منزلة الإنابة لأنه يتوكل في حصول مراده فهي وسيلة والإنابة غاية، وهو من أجل المراتب وأفضلها وأعمها قدراً..
قال ابن القيم رحمه الله: التوكل نصف الدين والنصف الثاني الإنابة فإن الدين استعانة وعبادة، فالتوكل هو الاستعانة والإنابة هي العبادة.
والتوكل متعلق بكل أمور العبد الدينية التي لا تتم الواجبات والمستحبات إلا بها. ومنزلته أجمع وأوسع المنازل ولا تزال معمورة بالنازلين لسعة متعلق التوكل وكثرة حوائج العالمين..!!
التوكل يتعلق بكل شيء واجبات ومستحبات ومباحات ولقد كثرت حوائج الناس ولابد لهم من التوكل على الله في قضائها.
فمنزلة التوكل تشتد الحاجة إليها وعباد الله تعالى حقاً إذا نابهم أمر من الأمور فروا إلى الله منيبين إليه ومتوكلين عليه ، وبذلك يسهل الله الصعاب وييسر الله العسير ويحقق العبد ما يريد وهو مطمئن البال هاديء النفس راضٍ بما قضاه الله عز وجل وقدره.
قال ابن القيم رحمه الله: ولو توكل العبد على الله حق توكله في إزالة جبل من مكانه وكان مأموراً بإزالته لأزاله.
فالمسلم لا يرى التوكل على الله في جميع أعماله واجباً فقط بل يراه فريضة دينية ليس متعلقاً فقط بالأمور الدينية بل بالأمور الدنيوية وليس بالأمور الدنيوية وطلب الرزق فقط بل بعبادة الله سبحانه وتعالى فهو عقيدة (( وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين)) ولهذا كان التوكل على الله نصف الدين ، بل هو الواجب لأنه أصل من أصول الإيمان .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : فإن التوكل من على الله واجب من أعظم الواجبات كما أن الإخلاص لله واجب وقد أمر الله بالتوكل في غير آية أعظم مما أمر بالوضوء وغسل الجنابة، ونهى عن التوكل على غيره سبحانه.
قال ابن القيم رحمه الله: والتوكل جامع لمقام التفويض والاستعانة والرضا لا يتصور وجودٌ بدونها.
وقال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: (( الأصل الجامع الذي تتفرع عنه الأفعال والعبادات هو التوكل على الله وصدق الالتجاء إليه والاعتماد بالقلب عليه وهو خلاصة التفريد ونهاية تحقيق التوحيد الذي يثمر كل مقام شريف من المحبة والخوف والرجاء والرضا به رباً وإلهاً والرضا بقضائه بل ربما أوصل التوكل بالعبد إلى التلذذ بالبلاء وعدّه من النعماء{ كما في حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب} فسبحان من يتفضل على من يشاء بما شاء والله ذو الفضل العظيم)).
فالتوكل هو أحد مباني التوحيد الإلهية كما يدل على ذلك قوله تعالى: (( إياك نعبد وإياك نستعين)). وأيضاً يدل عليه قوله تعالى: (( وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون)). وقوله تعالى: (( فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم)).
وهذا التوكل لا يقوم به على وجه الكمال إلا خواص المؤمنين كما في صفة السبعين ألفاً ، فالذي يحقق التوكل ليس كل الناس بل هم طائفة قليلة من الناس ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم : (( هذه أمتك يدخل الجنة من هؤلاء سبعون ألفاً بغير حساب ثم دخل ولم يبين من هم وما هي صفاتهم فأفاض القوم وقالوا نحن الذين آمنا بالله واتبعنا رسوله فنحن هم أو أولادنا الذين ولدوا في الإسلام فإنا ولدنا في الجاهلية فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم هذا القول منهم فخرج وقال : هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون)) فقال عكاشة بن محصن أمنهم أنا يا رسول الله؟ قال نعم، فقال آخر أمنهم أنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم : (( سبقك بها عُكاشة أو عُكَّاشة)).
وكان من الصحابة المتوكلين عمران بن حصين وهو من سادات المتوكلين، رضي الله عنه ، الذي كان به بواسير وكان يصبر على ألمها فكانت الملائكة تسلم عليه فاكتوى فانقطع تسليم الملائكة عليه ثم ترك الكي وصبر على الألم فعاد سلام الملائكة عليه.
كما جاء في حديث مسلم عن مفرّق قال لي عمران بن حصين أحدثك حديثاً عسى الله أن ينفعك به إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين حجة وعمرة ثم لم ينه عنه حتى مات ولم ينزل فيه قرآن يحرمه وقد كان يُسلَّم عليّ حتى اكتويت فَتُرِكْت ثم تركتُ الكي فعاد{أي السلام عليه من قِبَل الملائكة}.
فالتوكل على الله صفة علية من صفات عباد الرحمن وشعار يتميزون به عمن سواهم وعلامة بارزة لأهل الإيمان كما قال تعالى: (( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون)).
لا يرجون سواه ولا يقصدون إلا إياه ولا يلوذون إلا بجنابه ولا يطلبون الحوائج إلا منه ولا يرغبون إلا إليه ويعلمون أنه ماشاء كان وما لم يشأ لم يكن وأنه المتصرف بالملك لا شريك له ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب كما قال ابن كثير رحمه الله، وقال سعيد بن جبير : التوكل على الله جماع الإيمان.
وقال عزوجل عن أوليائه إبراهيم والذين آمنوا معه: (( ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير)). أي توكلنا عليك في جميع أمورنا وسلمناها إليك وفوضناها إليك.
ولقوة إيمانهم وتوكلهم أمر الله أن نتخذهم أسوة حسنة {إبراهيم والذين آمنوا معه} هكذا توكلوا على الله وسلموا لله الأمور تسليماً مطلقاً. صحبوا التوكل في جميع أمورهم مع بذل جهد في رضا الرحمن.
وأصحاب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل، ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنه : حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم حين ألقي في النار وقالها النبي محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً.
فالتوكل هو عدة المؤمنين يوم يتوعدهم الناس ويخوفونهم بكثرة الأعداء. فكان أول شيء وآخر شيء قاله إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار حسبنا الله ونعم الوكيل.
هو القريب المجيب المستغاث به
قل حسبي الله معبودي ومُتّكلي

من الآيات الدالة على فضل التوكل قوله تعالى: (( ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات الضر أو أرادني برحمته هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون)). فإذا كان المؤمنون دائماً متوكلون على الله ملتجئون إليه بقولهم حسبنا الله ونعم الوكيل فأولى بأنبيائه أن يكونا أكمل توحيداً أو توكلاً من غيرهم.
وقد أمر الله بالتوكل وحث على ذلك في مواضع كثيرة كما في قوله تعالى (( وعلى الله فليتوكل المؤمنون)) في سبعة مواضع في القرآن الكريم:
1- (( فتوكل على الله إنك على الحق المبين)).
2- ((فاعبده وتوكل عليه)).
3- (( وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيراً)).
4- (( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين)) فالتوكل سبب لنيل محبة الله وهي الصفة التي تميز بها المؤمنون عن غيره ولذلك أوجب الله التوكل.
5- وإذا قيل ما حكم التوكل؟ فيقال واجب مثل أصل محبة الله والصبر والإنابة بل إن التوكل شرط الإيمان. والمفهوم من الآية (( وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين)) أنه إذا انتفى التوكل انتفى الإيمان.
6- أمر الله بالتوكل وقرنه بالإيمان ليدل بذلك على أنهما جزءان إذ التوكل على الوكيل هو الإيمان فأمر بالتوكل قولاً وعملاً بعد الإخبار عن محبته للمتوكل عليه (( قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين)). واشترط للإيمان التوكل (( وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين))، وهذه جاءت في قصة موسى عليه السلام (( يا قومي إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين)). إذ لابد من هذا لهذا.
قال أهل التفسير: معنى الآية أن موسى عليه السلام أمر قومه بدخول الأرض المقدسة التي كتبها الله لهم ولا يرتدوا على أدبارهم خوفاً من الجبارين بل يمضوا قدماً لا يخافونهم ولا يهابونهم متوكلين على الله في هزيمتهم مصدقين بصحة وعده لهم إن كانوا مؤمنين .
7- وصار المتوكل على الله من عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً، ونعتهم الله بالمقام الجليل العظيم. وضمن الله لمن توكل عليه القيام بأمره وكفايته أي أن يكفيه همه وأن ينصره ويحفظه فالله ناصر دينه وكتابه والله كافٍ عبده بأمان، قال تعالى: (( ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدراً)) . يقول ابن كثير رحمه الله: ومن يتق الله فيما أمره به وترك ما نهاه عنه يجعل له من أمره مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب أي من جهة لا تخطر بباله. وفي هذه الآية فضل التوكل وأنه من أعظم الأسباب في جلب المنافع ودفع المضار فقد قال صلى الله عليه وسلم : (( لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً)) {رواه الترمذي وصححه الألباني}. فأفئدة الطير مليئة بالتوكل على الله ولو أننا توكلنا على الله كما يتوكل الطير لرزقنا مثل ما يرزق الطير، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم المتوكل على الله بوصفين:
أ‌- السعي في طلب الرزق.
ب‌- الاعتماد على مسبب الأسباب.
وهذا الحديث مهم في فهم قضية التوكل وفي الأخذ بالأسباب لأن الطير تغدو أي تذهب في الصباح وتبحث عن الرزق وتخرج من أعشاشها وهذا عمل وسعي وجهد وهو الطيران وترجع محملة بالطعام لنفسها ولأفراخها، إذاً فالسعي في طلب الرزق هو الاعتماد القوي على مسبب الأسباب المباحة، وقد قال تعالى: (( ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم)) والعزيز هو الارتباط ما بين نهاية الآية والتوكل والعزيز الذي لا يذل من استجار به ولا يضيع من لاذ بجنابه حكيم يدبر من توكل عليه بحكمته تدبيراً حسناً. قال ابن كثير – رحمه الله - : ومن يتوكل على الله أي يعتمد على جنابه فإن الله عزيز حكيم والتوكل مركب السائر الذي لا يتأتى السير إلا به ومتى نزل عنه انقطع فوراً وتوقف عن السير وهذا ما لاحظه ابن القيم رحمه الله وهذا يبين منزلة التوكل وفضل التوكل.
ومما يدل على فضله وعلو منزلته أن الله أمر به في أكمل الأحوال والعبدات والمقامات:
1- مقام العبادة(( فاعبده وتوكل عليه)) فأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين والخلق بالعبادة والتوكل. وقال تعالى: (( واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيراً وتوكل على الله وكفى بالله وكيلاً))، توكل على الله في جميع أحوالك وأمورك فهذا التوجيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليتوكل على الله ويتقيه ويعبده ويتبع ما يوحى إليه من ربه فهو أمر له ولأمته من بعده إلى يوم القيامة.
2- في مقام الدعوة، فجاء الخطاب لرسول الله والأصل هو خطاب لأمته إلا إذا دل الدليل على تخصيص له فقال تعالى: (( فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم)). فهو الذي تنتهي إليه القوة والملك والعظمة والجاه وهو حسب من لاذ به ويكفي من استجار به ويدفع عنه الشر عز وجل ويحميه، ونوح عليه السلام أيضاً في مجال الدعوة: (( قال يا قومي إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت)). فهذه الدعوة من نوح عليه السلام والإنذار الطويل والتذكير المستمر الذي رافقه وقابله من قومه تكذيب وإعراض بعدما بلغ الضيق منه توكل على الله وفوض الأمر إليه وهو ماضٍ في الدعوة.إذاً الداعية إلى الله إذا جُوبه بالإعراض من المدعوين والصدود والرد وعدم الاستجابة فإنه يتوكل على الله والله يكفيه شر هؤلاء المعرضين. ويوسع صدره الذي ضيقوه بإعراضهم.
3- في مقام الحكم والقضاء ، قال تعالى: (( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب)) فالرسول صلى الله عليه وسلم أمره كله إلى الله، أناب إلى ربه وتوكل عليه وفوض أمره لله، كيف يتحاكم الناس لغير الله إذا اختلفوا بشيء من الأمر، وهذا النبي الذي أرسله يُترَك ولا يتحاكم إليه وهو أولى أن يتحاكم إليه ليقول قول الفصل فيما اختلفوا فيه وكيف يتوجهون في أمر من الأمور إلى جهات أخرى والنبي موجود يقضي، فما دام القاضي والحاكم على الحق المبين فلا يبالي بما يعوقه وبمن يرد حكمه وبمن يرفض التحاكم إلى الشريعة التي يقتضي بها فإذا الحاكم والقاضي عليه التوكل على الله.
4- في مقام الجهاد وقتال الأعداء، قال تعالى: (( وإذ غدوت من أهلك تبوء المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم* إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون)) فمع أنه يعد العدة ويجهز الجيش ويعيّن الأماكن ويرتب الجيش أي يأخذ بالأسباب ومع ذلك أمر بالتوكل لأن النصر بيد الله (( إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون)) فكأنه يقول لهم إن كنتم في حال ضعف فالنصر بيد الله فتوكلوا عليه (( يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون)).ولوكنتم في حال الكثرة والقوة أيضاً فيجب عليكم أن تتوكلوا فإنكم إذا ماتوكلتم على الله فلن تنفعكم الكثرة (( ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً)) ولو كانوا في معركة وأرخى لهم العدو جناح الذل وريش الوداعة وظن المؤمنون أن المعركة قد انتهت فلابد أن يبقى الارتباط والتوكل على الله ولو قال العدو نريد السلم وخنعوا (( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله)). التوكل لا ينقطع مع أن المعركة انتهت والحرب وضعت أوزارها وخنع الأعداء للسلم و ذلوا واستسلموا، وفي الحديبية كان الرسول صلى الله عليه وسلم قادراً على مواصلة الجهاد والقتال بل كان مستعداً لاقتحام مكة وقال بايعوني على الموت، ولكن جنح للسلم لما جنحوا لها لعل أن تكون فرصة الدعوة مواتية ، لذلك فقد دخل في الإسلام بعد الحديبية أضعاف أضعاف ما كان قبله وفي سنوات أقل، إذاً لو طلبوا السلم والحرب الآن توقفت فتوكل على الله وإن أرادوا خداعكم فإن الله حسبك ولابد من استمرار التوكل على الله حتى في حال الغلبة والانتصار على العدو، وفي قصة موسى قال تعالى: (( قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإنا داخلون* قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين)).
5- في مقام المشورة، قال تعالى: (( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين))، فأخذ المشورة من باب الأخذ بالأسباب فآراء الناس أسباب تعين على الاهتداء إلى الصواب وأخذ القرار الصحيح، ولكن لا ينفك المؤمن في هذه الحالة حتى لو عندهم كبار المستشارين عن التوكل على الله. ولذلك بعض هؤلاء يغترون ويظنون أن وجود آراء المستشارين يغني عن التوكل وأنه عنده الخبراء الكبار وعنده المستشارون العظماء ونقول يمكن أن يضل هؤلاء كلهم ويأمرون بقرارات خاطئة، وقد يشيرون لأمر صائب ويخطئون في تنفيذه، إذاُ لابد من التوكل على الله حتى مع أخذ الآراء.
6- في مقام طلب الرزق، قال تعالى: (( فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون)) وقال: (( ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدراً)).
7- في مقام العهود والمواثيق، وقد أخبر الله عن يعقوب عليه السلام في قصة يوسف وأخوته: (( قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقاً من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم فلما آتوه موثقاً قال الله على ما نقول وكيل)) والموثق هو العهود والأيمان المغلظة، (( وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة ما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون)).
8- في مقام الهجرة في سبيل الله وهو عظيم وأليم على النفس أن يترك الإنسان مأواه وداره وأمواله ويتغرب ويضحي بعشيرته وبذكريات حبيبته ولكن يهوّن عليه التوكل على الله ، قال تعالى: (( والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوأنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعملون * الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون)). ومن الذي يهون الهجرة والفرقة هو التوكل على الله . مهاجرة الحبشة الذين اشتد عليهم الأذى هاجروا هجرتين مشهورتين والنبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه أيضاً هاجروا وفي طريق الهجرة حصل ابتلاء وخوف ((إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها)).
9- في مقام إبرام عقود البيع والإجارة والزواج، موسى عليه السلام لما اتفق مع الرجل الصالح على أن يزوجه ابنته على أن يأجره ثماني حجج أجير وراعي غنم وإذا أتم عشراً فهذا حسن وليس بواجب(( فإن أتممت عشراً فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين* قال هذا بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل)) وقد قضى موسى العشر وأتمها وأكملها كما جاء في الحديث (( إن نبي الله إذا قال فعل))، والأليق بالنبي هو الأكمل.
تعريف التوكل
في اللغة: هو الاعتماد والتفويض وتوكيل الأمر إلى الشخص أي تفويضه به والاعتماد عليه فيه ووكل فلان فلاناً إذا استكفاه واعتمد عليه وفوض الأمر إليه ووثق به ، والتوكل إظهار العجز والاعتماد على الغير، وأصله من الوكول ويقال وكلت أمري إلى فلان أي اعتمدت عليه .
وقد ورد لفظ التوكل بالإفراد والجمع والماضي والمضارع والأمر في القرآن في اثنان وأربعون موضعاً، كلها جاءت بمعنى الاتكال والاعتماد على الله وتفويض الأمر إليه فالاسم التكلان، وورد في حديث الترمذي وفيه ضعف(( وهذا الجهد وعليك التكلان)).وفي حديث عثمان (( الله المستعان اللهم صبراً وعلى الله التكلان)) وأيضاً من الأسماء الوكالة ووكيل الرجل الذي يقوم بأمر فهو موكول إليه الأمر.
قال ابن القيم رحمه الله: والوكالة يراد بها أمران، أولاً التوكيل وهو الاستعانة والتفويض ، والثاني التوكل وهو التصرف بطريق الإنابة عن الموكل وهذا عن الجانبين فإن الله تبارك وتعالى يوكل العبد في حفظ ما وكله فيه والعبد يوكل الرب ويعتمد عليه.
فأما وكالة العبد لربه( فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها كافرين) قال قتادة: وكلنا بها الأنبياء الثماني عشر الذين ذكرناهم قبل هذه الآية، وقال أبو رجاء العطاردي: إن يكفر بها أهل الأرض فقد وكلنا بها أهل السماء وهم الملائكة . وقال ابن عباس ومجاهد: هم الأنصار أهل المدينة، والصواب أن من قام بها إيماناً ودعوة وجهاداً ونصرة فهؤلاء الذين وكلهم الله بها.
لما قام المعتز على الإمام أحمد فسجن واضطهد ومنع من التحديث على شأن أبي دؤاد المبتدع ، فيقال أن النبي صلى الله عليه وسلم رؤي وهو يقرأ قوله تعالى: (فإن يكفر بها هؤلاء) ويشير إلى أحمد بن أبي دؤاد المعتزي (فقد وكلنا) ويشير إلى أحمد ،و هذه من صالح الرؤى.
هل يصح أن تقول أن الله وكل أو يوكل أحداً من العباد؟
نعم بإقامة الدين، لكن هل يصح أن يقال أن أحداً ما وكيل الله؟ لا.. لأن الوكيل من يتصرف عن موكله بطريق النيابة، والله لا نائب له ولا يخالفه أحد ولا يخلفه أحد بل هو يخلف عبده( اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل ) يخلف العبد في أهله وماله الذين غاب عنهم. أما أن العبد يوكل ربه فنعم بتفويضه إليه وعزل نفسه عن التصرف ، لهذا قيل في التوكل أنه عزل النفس عن الربوبية وقيامها بالعبودية. ومعنى كون الرب وكيل عبده أي كافيه والقائم بأمره ومصالحه فوكالة الرب عبده أمر وتعبد وإحسان لا عن حاجة بل منّة وافتقار منهم إليه وأما توكيل العبد ربه فتسليم لربوبيته، وقيام بعبوديته وحسبنا الله ونعم الوكيل أي كافينا ونعم الكافي يكفينا من كل شر والحسب هو الكافي والله وحده كافٍ عبده.
والتوكل في الاصطلاح الشرعي: هو صدق اعتماد القلب على الله عز وجل في استجلاب المصالح ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة كما ذكر ابن رجب، وقال الحسن أن يعلم أن الله هو ثقته..! وقال ابن عثيمين رحمه الله: صدق الاعتماد على الله عزوجل في جلب المنافع ودفع المضار مع فعل الأسباب التي أمر الله بها ، وهذا تعريف جيد جامع.
وهذا التوكل لا ينقطع ولا يخلو من اتخاذ الأسباب، فهو ثقة بالله واعتماد عليه مع الأخذ بالأسباب، فهو يلتئم هذين الأصلين، يقول ابن القيم رحمه الله: سر التوكل وحقيقته هو اعتماد القلب على الله وحده ، فلا يضره مباشرة الأسباب مع خلو القلب من الاعتماد عليها والركون إليها.
إذا كان معتمد على الله بالكلية فلا يضره لو كان لديه عشرين طريقة وسبب، لأن يفعل شيئاً فإذا قال العبد توكلت على الله مع اعتماد القلب على غير الله كمن يقول تبت وهو مستمر على المعصية، فتوكل اللسان مختلف عن توكل القلب، وهذا فعل الكفرة والغربيين إذا انهارت الأسباب انهاروا أما المؤمن فلا ينهار إذا أفلس من الأسباب فلا يزال يرجو الفلاح.
حقيقة التوكل
قال الزبيدي في تاج العروس: الثقة بما عند الله واليأس مما في أيدي الناس، فالتوكل على الله اعتماد القلب على الله مع الأخذ بالأسباب، مع كامل اليقين أن تعلم أن الله هو الرازق الخالق المحيي المميت لا إله غيره ولا رب سواه.
والتوكل يتناول التوكل على الله ليعينه الله على فعل ما أمره والتوكل على الله ليعطيه ما لا يقدر عليه، وكلاهما كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية ، فالاستعانة تكون على الأعمال والتوكل أعمّ من ذلك فالتوكل مجلبة لمنفعة، ودفع لمضرة.
(( ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى ربنا راغبون)).
إذا ما حذرت الأمر فاجعل ازاءه رجوعاً إلى رب يقيك المحاذر
ولا تخش أمراً أنت فيه مفوض إلى الله غايات ومصادر
وكن للذي يقضي به الله وحده وإن لم توافقه الأماني شاكر
ولا تفخرن إلا بثوب صيانة إذا كنت يوماً بالفضيلة فاخر
وإني كفيلٌ بالنجاة من الأذى لمن لم يبت يدعو سوى الله ناصر
فإذاً كن شاكراً لله ولا تخشَ شيئاً إذا فوضت أمرك لله ، كن رجّاعاً لله متكلاً عليه ؛ حينها ينصرك الله.
حقيقة التوكل عبادة واستعانة ( فاعبده وتوكل عليه)(عليه توكلت وإليه أنيب) ( عليه توكلت وإليه متاب) ( اتخذه وكيلاً)(عليك توكلت وإليك أنيب) ، انظر للمقارنة للتوكل مع العبادة والاستعانة بالله، فالتوكل أعمّ في جلب المنافع وهو دفع المضار حتى لو كانت في أشياء دنيوية والاستعانة على العبادة.
التوكل أعم من الاستعانة و قد جمع الله بين الأصلين في غير موضع كقوله (إياك نعبد وإياك نستعين)، فالعبادة له والاستعانة به والتوكل عليه وحده لا شريك له، الله عزوجل إذا توكل عليه العبد يكفيه و هو حسب من توكل عليه والحسب هو الكافي ، يمنع الشر عنك، يكفيك ما أهمك ، يكفيك عدوك..
لما قال الله لنبيه ( يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين)..، بعض الناس يظنون أن المعنى حسبك الله والمؤمنون حسبك أيضاً ،يعني يكفونك مع الله، هذا خطأ بل حسبك الله وحسب من اتبعك ، يكفيك ويكفيهم..حسبك وحسبهم..كلكم..أنت وهم.. ، ولا يجوز حمل الآية على المعنى الآخر..
ولذلك الآية الأخرى ( وإن يريدوا يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين)..
نعم هنا ممكن..
فرق بين الحسب والتأييد..
هل المؤمن يكفي يكون حسباً؟... لا ،لكن يكون ناصراً ومؤيداً..نعم..
أيدك بالمؤمنين..أن يؤيدونك وينصرونك..هذه لا إشكال فيها..ولا تضاد التوحيد..
ولكن إذا قلت يكفونك ..من ذا يقدر على الكفاية..؟..من الذي يستطيع أن يكون حسباً يكفي غيره كل شر من الشرور؟.. ما يقدر على هذا إلا الله سبحانه وتعالى..
قال ابن القيم رحمه الله في معنى الآية: " حسبك الله أي كافيه ومن كان الله كافيه و واقيه فلا مطمع فيه لعدوه ولا يضره إلا أذى"..
معنى ( لايضروك إلا أذى)..مثل أذى الحر والبرد والجوع والعطش أما أن يضره العدو بما يبلغ به مراده(يعني الشيء الذي يريده العدو فيه) لا..يعني إذا توكلت على الله لن يضروك إلا أذى..
يعني الشيء الذي لابد منه ولكن ليس على مايشتهي ويريد العدو.. ، يعني أثر خفيف..مثل مايحدث لك من الحر والبرد والجوع والعطش..، لكن لا يستطيعون أن يبلغوا ما يريدونه ويتمنونه إذا توكلت على الله..

وإذا كان الله قد جعل لكل عمل جزاء من جنسه فقد جعل جزاء التوكل عليه الكفاية، ومن يتوكل على الله فهو حسبه ، ولو كاده كل من في الأرض جميعاً..!!
وإذا دجى ليل الخطوب وأظلمت سبل الخلاص وخاب فيها الآمل
وأيست من وجه النجاة فما لها سبب ولا يدنو لها متناول
يأتيك من ألطافه الفرج الذي لم تحتسبه وأنت عنه غافل
والثقة بالله سبحانه وتعالى والتوكل عليه وتفويض الأمور يليه يريح العبد نفسياً، لأنه الواحد مهما بذل أسباب ستبقى ثغرات يتحسب منها ، ويبذل كذا وكذا لكن هذه لا يستطيع أن يفعل فيها شيء، ولو جاءوا ما استطعت..ولو كادوا لي من هذه الجهة ما لي حيلة..وضعنا احتياطات من هنا ومن هنا ولكن لو جاءوا من هنا لو فعلوا من هنا ماعندنا احتياطات...!!، فيصبح العبد مهموماً حتى مع اتخاذ بعض الأسباب..هناك أشياء لا يقدر عليها فالتوكل يريحه نفسياً..الأشياء التي لا حيلة له فيها ؛ الذي لا يتوكل قلق منها قلق جداً منها لأنه لم يعمل شيء في الموضوع ، لكن من يتوكل على الله كفاه الله ما أهمه..،
فهناك أحوال كثيرة المخلوق لا يستطيع أن يفعل فيها شيئاً مادياً..ماعنده إلا هذا التوكل..
.والتوكل على الله لابد من تحقيق مراتب فيه.:
1- معرفة الرب وصفاته ، من قدرته وكفايته وقيوميته، أنت تتوكل على الله وتعتمد عليه يجب أن تكون مؤمنا بقوة الله وقدرته وأنه يكفيك، فالذين يعطلون أسماء الله وصفاته ويلحدون فيها سيخلون بهذه المرتبة..
2- إثبات الأسباب والمسببات وأنها لا تستقل بنفسها في التأثير، وإن جحد الأسباب وقال كل سبب معطل ، هذا غبي مجنون..، هناك أسباب ، تنكح ليأتيك الولد وتبذر ليخرج الزرع..، ولذلك جاء رجل للنبي صلى الله عليه وسلم فقال أءعقلها وأتوكل أم أطلقها وأتوكل...؟، قال : اعقلها وتوكل..، وأحياناً لا يجد الواحد إلا الدعاء ، ونعم السبب ..، والله عزوجل علم عباده الأخذ بالأسباب فقال: (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها ) وقال: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله)..، فالذي يقول لا أعمل شيئاً حتى يأتيني رزقي جاهل بشرع الله وجاهل بقدر الله ..، الله قال في سورة المزمل ( وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله)..يضربون : يسافرون و يذهبون ويتاجرون ، وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتاجرون في البر والبحر..ويعملون في نخيلهم وكان غسل الجمعة.. لماذا أمروا به..؟..لأنهم كانوا عمال أنفسهم..يعملون في الحر والنخيل.. العرق يرشح على ملابس الصوف فيكون لها رائحة كريهة في المسجد، فقيل لهم ( لو اغتسلتم) كما في البخاري ، ولما سئل الإمام أحمد رحمه الله عن هؤلاء الذين يزعمون أنهم متوكلة ويقولون نقعد وأرزاقنا على الله عزوجل، قال الإمام أحمد : هذا قول رديء أليس الله قد قال ( فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون*فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله)..؟، وقال صالح بن أحمد بن حنبل: ( سئل أبي عن قوم لا يعملون ويقولون نحن المتوكلون فقال : هؤلاء مبتدعون)..
3- ومن المقامات التي يجب تحقيقها رسوخ القدم في طريق التوحيد..، فالعبد إذا حقق التوحيد كان له من التوكل النصيب العظيم ..،( حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت) توحيد وتوكل بعده..
4- الاعتماد على الله عزوجل في كل الأمور، بحيث يفوض إليه سائر أموره..
5- أن يحسن الظن بالله عزوجل وتفويض الأمور إلى الله عزوجل كلها ويكون بيد الله أوثق منه بما في يده، لا يضطرب قلبه ولايبالي بإقبال الدنيا وإدبارها لأن اعتماده على الله ..، فحاله كحال إنسان أعطاه ملك درهم فسرق منه، فقال الملك عندي أضعافه فلا تهتم..متى جئت أعطيتك أضعافه من خزائني، فمن يعلم أن الله ملك الملوك خزائنه ملأى فلا يقلق إذا فات شيء فإن الغني يعطيه الله بدلاً منه.. وأما حسن الظن بالله عزوجل فإن الله عزوجل قال: (أنا عند ظن عبدي بي)كما جاء في الحديث القدسي، فحسن الظن يدعو إلى التوكل على الله، أنت تتوكل على من تظن أنه سينفعك، وإن الإنسان إذا علم وتيقن أن الله هو الغني القادر الحسب الكافي فيتوكل عليه..
6- استسلام القلب لله سبحانه وتعالى، فإذا استسلم كاستسلام العبد الذليل لسيده وانقياده له حصل التوكل ..
7- التفويض .. (فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله) أي أتوكل عليه وأستعينه مع مقاطعتي و مباعدتي لكم خدعتموني ..قال اين مسعود : (إن أشد آية في القرآن تفويضاً" ومن يتوكل على الله فهو حسبه" )، قال ابن القيم رحمه الله نقلاً عن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : (المقدور يكتنفه أمران: التوكل قبله والرضى بعده"من وجهة نظر الدين والتوحيد"، فمن توكل على الله قبل الفعل ورضى بالمقضي بعد الفعل فهذا إنسان قائم بالعبودية فعلاً)..ولذلك انظر إلى دعاء الاستخارة: واقدر لي الخير حيث كان كله ثم رضني به..فالتوكل إذاً على الله تفويض قبل وقوع المقدور ورضى بعد وقوع المقدور..

فعرفنا إذاً أيها الأخوة الفرق بين التوكل والتواكل ، فالتوكل فيه أخذ بالأسباب الشرعية، فبعض الطلاب قد يذهب لاختبار ويأخذ معه أشياء للغش ويقول هذه أسباب(!!)، فهذا التوكل بمعصية، ولكن التوكل الصحيح أن يأخذ بالأسباب الشرعية المقدور عليها .
التواكل ترك الأسباب ..ومن ترك التوكل طعن في التوحيد..ومن ترك الأسباب نقص في العقل..
والأسباب ولو كانت يسيرة وضعيفة؛ يبذلها العبد..والله سبحانه وتعالى يبارك فيها ويجعل فيها أثراً، والله علمنا ذلك في قصة مريم..
توكل على الرحمن في كل حاجة
ولا تؤثرن العجز يوماً على الطلب
ألم ترَ أن الله قال لـــــــمريم
إليك فهزي الجذع يساقط الرطب
ولو شاء أن تجنيه من غير هزها
جنــــــته ولكن كل شيء له سبب
فتخيل حال امرأة..ضعيفة .. في حال النفاس..أضعف ماتكون المرأة.. والنخلة شجرة قوية ..جذعها قوي.. ولكن الله قال: (وهزي إليك بجذع النخلة) ولكن بالسبب الضعيف جعل النتيجة..!..،كان من الممكن أن يسقط الثمر بلا هز..وماذا يغني الهز من امرأة ضعيفة لشجرة قوية..، ولكن ليعلم العباد الأخذ بما أمكن من الأسباب..هذا مبدأ مهم في قضية التوكل.. والنبي صلى الله عليه وسلم ظاهر بين درعين ولبس لئمته و وضع الخوذة على رأسه(المغفر)..ماهذا؟؟..أخذ بالأسباب ، وطريق الهجرة وأخذ دليل وتعمية الأثر..كل هذا أخذ بالأسباب..وخرج في وقت يغفل فيه الناس..من طريق غير متوقع..وهو نبي..(حسبك الله)(والله يعصمك من الناس) ولكن الله علمنا التتبع ..الهجرة أخذ بالأسباب مع التوكل على الله..

والتوكل على الله عز وجل يجمع علم القلب وعمل القلب .. أن يعلم بأن الله مقدر الأشياء ومدبر الأشياء، وعمل القلب سكون القلب للخالق والاعتماد عليه والثقة به، فهذان أمران مهمان في التوكل يشمل التوكل علم القلب وعمل القلب..
1- أن يعلم بالأسماء والصفات..
2- أن يسكن ويفوض ويستسلم لله سبحانه وتعالى..
إذا ابتليت فثق بالله وارضَ به
إن الذي يكشف البلوى هو الله
إذا قضى الله فاستسلم لقدرته
ما لامريء حيلة فيما قضى الله
اليأس يقطع أحياناً بصاحبه
لا تيأســــــن فنعم القادر الله
والتوكل على الله سبحانه وتعالى يكون في تحصيل الحظ من الرزق والعافية ومتع الدنيا وجلب الحوائج ودفع المكروهات والمصائب الدنيوية..
كما يكون التوكل أيضاً في عبادته عز وجل و العبد إذا كان الله عزوجل غايته فإنه يسكن ويهدأ ولا يضطرب ويسأل ربه ويدعو ، والتوكل على الله مع اسقاط الأسباب طعن في العقل والدين أيضاً لأننا قد أمرنا بالعمل ، مثل هؤلاء الذين يظنون أنهم يريدون أن يدخلون الجنة بدون أعمال ويقولون ندخل برحمة الله..!!، كما قال أحدهم : جاهدت مع أهل زوجتي في إخراج المنكر من البيت ومن الوسائل والأجهزة المفسدة وأحاول فيهم ، وأو زوجتي يتدخل ويقول لماذا تفكر تخرج الأجهزة هذي ؟كلنا في رحمة الله ..، نعم كلنا في رحمة الله ولكن أليس هناك أسباب لدخول الجنة؟؟!!..واجتناب أسباب دخول النار..؟؟!!..مافي ابتعاد عن المحرمات..؟؟!!.قيام بالواجبات..؟!!..كذا برحمة الله بدون اتخاذ أسباب..؟!!!..(إن رحمة الله قريب من المحسنين) يا أخي..ليست قريب من الفاجرين الفاسقين..!!
فمشكلة أن يوجد مثل هؤلاء الذين لا يريدون لابذل أسباب دنيوية ولا شرعية ، وبعضهم يبذل أسباب دنيوية ولايبذل أسباب شرعية، في الدنيا والدراسة والتحصيل والفن والأجهزة ممتاز، وفي الصلاة تقصير والمحرمات يقع فيها ، فيأخذون بالأسباب في الدنيا ويتركون أسباب الدين..كيف تنجو في الآخرة بدون أن تأخذ أسباب الجنة..؟!!..(اعملوا فكل ميسر لما خلق له) ..
الأمور التي تضاد التوكل
1- التطير والتشاؤم ..قال صلى الله عليه وسلم ( لاطيرة )..، التطير والتشاؤم من الشيء المرئي أو المسموع ، كمن يرى أعور فيتشائم به ، ويرى طيراً ذهب شمالاً فيتشاءم به، يريد أن يذهب لسفر أو زواج فيلغي المشروع..، هذا ينافي التوكل على الله..، قال مثلاً كرسي الحجز في الطائرة 13 ..هذا ما أركب فيه..هذا شؤم..، تجنب الرقم 13 ليس من الأسباب المشروعة إطلاقاً، ذهب يضرب صفقة مع رفيقه فرأى حماته، فقال هذا نذير شؤم..ما دخلها..؟!!، فالتطير والتشاؤم منافي للتوحيد، ولما جاء أحد المنجمين لعلي رضي الله عنه وهو خارج لقتال البغاة ، قال هنا الآن نوء العقرب إذا خرجت ياعلي ستخسر في المعركة وتنهزم فخرج علي ثقة بالله وتوكلاً عليه وكتب الله له في تلك الغزوة والخروج البركة والخير والفلاح والانتصار ، ولذلك المرء يتعمد مخالفة العرافين والكهنة ..، فإذا قال له كاهن خروجك هذا شر والنجم كذا فليقل بل مخالفة لك وإيماناً بالتوحيد وإيماناً بالسنة سأخرج و أخالفك يا أيها الدجال والمشعوذ..وإتيان الكهان والتعلق بهم.. ، تعليق التمائم يخالف التوكل..، لأن الإنسان ( من تعلق شيئاً وكل إليه)..، لذلك الإنسان لو علق أشياء ولو بالقرآن يتعلق قلبه بالجلد هذا والورق والحبر المكتوب مع أن المفترض أن يتعلق قلبه بالله وليس بأوراق وجلود يجعلها على معصمه أو يعلقها في رقبته، وبعضهم يقول هذه أسباب..!!!!..،هذا خلافنا مع بعض الناس.. أمرنا باتخاذ أسباب شرعية..أو أي أسباب..؟!!!!..، التوكل لابد أن يكون معه أسباب شرعية .. ، فالذي يلبس حلقة أو خيط أو يتبرك بالأشجار ويكتب التعاويذ ويعلقها هذه أسباب غير مشروعة فكيف تتخذها..؟!!.(من تعلق شيئاً وكل إليه) وحرم من التوكل على الله وصار توكله على هذا الشيء الموضوع ، لذلك ترى الناس الذين توحيدهم ضعيف يكثر من هذه الأشياء..يعلق في السيارة والبيت وعلى رقبته وأولاده ومنها أشياء شركية وكذا .. لأنه يريد أي أسباب.. ماعنده توحيد وتوكل قوي فهو خائف ويريد أي سبب فيفعل أي شيء ولو كان غير مشروع، لذلك ينقلب على عقبيه ويرتد على دبره ولا يحصل له ما يريد ويبقى في خوف وهم..
2- ولابد في التوكل على الله من السعي في طلب الرزق، وهذا مهم جداً في عصر شاعت فيه البطالة، بعض الناس يتواكلون على بعض ، والابن على أبيه والأخ على أخته الموظفة، وكثير منهم لا يريدون العمل ، والله أرشدنا وفتح أبواب لطلب الرزق وأشياء مذكورة في الكتاب والسنة..
‌أ- فأول وأعظم سبب للرزق وأحل الحلال في الأرض هو غنائم القتال (فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً) فالعلماء تناقشوا في قضية ماهو أطيب الرزق وأحل الحلال تجارة زراعة وصناعة.. قالوا : إن أحل الحلال على وجه الأرض غنائم المعارك في سبيل الله لأن الله قال ( فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً) والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (جعل رزقي تحت ظل رمحي)..
‌ب- العمل باليد فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ماأكل أحد طعاماً قط خيراً من عمل يده) وقال : (لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير من أن يسأل أحداً فيعطيه أو يمنعه)..
‌ج- التجارة وهذي عمل كثير من المهاجرين وكذلك الأنصار( فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون)..، وعبدالرحمن بن عوف قال : (دلوني على السوق)..، كان الصحابة يغدون إلى السوق ويشترون ويبيعون..
‌د- الحرث والغرس والزرع، وقال أن الزراعة فيها ميزة في التوكل على الله أكثر من غيرها فالمزارع إذا بذر عنده في قلبه توكل على الله أكثر من التاجر ، كلهم يحتاجون التوكل لكن الزارع أكثر، فبعضهم قدم الزراعة من هذه الجهة لما فيها من مزيد تعلق القلب من الله في رجاء حصول النماء والنبات لهذا المحصول و بأن الثمرة تظهر ولا يصيبها آفة وهكذا..
ثم إن الإنسان يبذل الأسباب في العلاج ، غير طلب أسباب الرزق، فمثلاً قال النبي صلى الله عليه وسلم : (ما أنزل الله من داء إلا وأنزل له شفاء) ( تداووا عباد الله) والتداوي ماهو إلا أخذ بالأسباب في هذا المجال..
فوائد التوكّل
1- بسببه النصر على الأعداء ( قالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء) ( ولما رأى المسلمون الأحزاب قالوا هذا ماوعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله و مازادهم إلا إيماناً وتسليماً)..
2- يجلب المصالح ويدفع المضار والمصائب ويجلب الرزق ويعجل الشفاء ..
3- التوكل على الله سبب لقوة القلب ونشاطه..
4- وقاية من الانهيارات النفسية والعصبية..
5- يباعد بين الإنسان والانتحار وما يفعله هؤلاء الذين عدموا التوكل فيئسوا وأصيبوا بالإحباط فلم يبق لهم في الدنيا مكان في نظرهم..
6- سبب للحفظ في النفس والمال والولد والأهل ( قال الله على مانقول وكيل) يعقوب قالها لبنيه..!( إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون)، وقال: ( إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون )..وعندما يخرج الإنسان من بيته يقول: (بسم الله توكلت على الله ) فماذا يحدث له؟!!..يقول له ملك: (هُدِيت، وُقِيت،كُفيت من كل شر)..
7- التوكل على الله يبعث في القلب الحماس والعزيمة للعمل لأنه فيه فتح لباب الأخذ في الأسباب والأسباب المشروعة، لما يفهم المرء التوكل فهماً صحيحاً ينطلق للعمل ويأخذ بالأسباب، وهذا فيه انتاجية وفيه ثمار تحدث..
8- والتوكل على الله يرفع الروح المعنوية حتى لو أصاب الإنسان مصائب وشدائد ، ففي الجراحات والقتل الذي أصابهم مصيبة فوقها يأتي خبر أن المشركين جمعوا عليكم ليعيدوا الكرة عليكم ( قالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء)..
9- التوكل على الله يجلب الرزق كما يرزق الطير وقد تقدم الكلام في هذا..
10- التوكل على الله يحقق النتيجة فالطالب يريد النجاح والتاجر يريد الربح وطالب الوظيفة يريد التعيين في العمل وهكذا..
11- من توكل على الله يشعر بمعية ربه له أنه معه ناصره مغنيه كافيه واقيه..
12- التوكل على الله يجلب محبة الرب للعبد,وكذلك العبد يحب الرب نتيجة التوكل، لأنه يرى آثارتوكله على ربه وكيف أن الله يعطيه على نيته وتوكله عليه فيحب ربه..
13- التوكل من حققه دخل الجنة بلا حساب ولا عذاب وهذا أعظم ثمرات التوكل كما جاء في حديث السبعين ألف..
14- التوكل على الله عز وغنى ..
قصص مع المتوكلين وعلى رأسهم الرسول صلى الله عليه وسلم..
لما نزل مع أصحابه في واد فعلق سيفه في شجرة فتفرق الناس في الوادي يستظلون في الشجر فلم يرعهم إلا والنبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم فأتوه فإذا بشخص و سيف ساقط فقال الرسول إن رجلاً أتاني وأنا نائم فاتخذ السيف فاستيقظت وهو قائم على رأسي فلم أشعر إلا والسيف صلفاً أي مسلولاً..انتبه النبي والسيف فوق رأسه..أين المهرب..؟!..فقال من يمنعك مني ..؟!! قلت: الله..هذه كلمة فيها التوكل والتفويض والاستعانة وكل شيء..قال: فشام السيف أي أغمده..وفي رواية سقط السيف من يده..، هاهوذا جالس..كما في صحيح مسلم..
النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر في الغار, أبو بكر خائف على النبي أكثر من خوفه على نفسه يقول : (يارسول الله لو نظر أحدهم إلى ما بين قدميه لأبصرنا) مابيننا وبين الهلاك إلا نظرة تحت!!..قال يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما..؟!!، هذا هو التوكل والتفويض يظهر فعلاً في أوقات الأزمات جلياً واضحاً..أن هذا العبد قلبه مفتقر إلى الرب متوكل عليه مفوض أمره إليه خصوصاً إذا لم يكن هناك أسباب تتخذ إلا تفويض الأمر إلى الله..
وجاء الإنكار من ابن عباس رضي الله عنه على بعض أهل اليمن الذين يحجون ولا يتزودون ويقولون نحن المتوكلون فإذا قدموا مكة سألوا الناس مدوا أيديهم..فأنزل الله ( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى)..
وهناك قصة لطيفة لامرأة رواها الإمام أحمد رحمه الله تعالى يقول في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن امرأة خرجت في سرية من المسلمين وتركت ثنتي عشرة عنزاً لها وصيصيتها"السيخ الذي ينسجون به الغزل" كانت تنسج بها، ففقدت عنزاً من غنمها وصيصيتها فقالت ياربي إنك قد ضمنت لمن خرج في سبيلك أن تحفظ عليه وإني قد فقدت عنزاً وصيصيتي وإني أنشدك عنزي وصيصيتي ، فجعل رسول الله يذكر شدة مناشدتها لربها سبحانه وتعالى وشدة توكلها على الله وخرجت في سبيل الله ومعتمدة أن الله يحفظ مالها ولما عادت لم تقول أن الله أخلف وعده ولكن نشدت ربها ماوعد به وأخذت تلح وتلح... قال صلى الله عليه وسلم : (فأصبحت عنزها ومثلها وصيصيتها ومثلها)..رجع مضاعفاً..!!نامت على الدعاء والتوكل ووجدته مضاعفاً من عند الله..!!
و قال الإمام أحمد في مسنده حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا عبدالحميد بن وهران قال أبو هريرة : (بينما رجل وامرأة له في السلف الخالي لا يقدران على شيء فجاء الرجل من سفره فدخل على امرأته جائعاً قد أصابته مسبغة شديدة فقال لامرأته أعندك شيء ؟..لكن رأفة بحال الزوج أو رفع المعنويات وتسليته وما عندها شيء فلم تشأ أن تقول لزوجها راجع جائع جداً (لا)..فالمرأة اشفاقاً على زوجها وثقة بالله قالت ( نعم ابشر أتاك رزق الله) مع أنها ليس لديها شيء لكنها الثقة والاعتماد على الله ورجاء الله ، فاستحثها فقال ويحكِ ابتغي إن كان عندكِ شيء..!!..قالت: نعم هنيّة..اصبر..نرجوا رحمة الله..!حتى إذا طال عليه الطوى وجاع زيادة فوق جوعه فقال ( ويحكِ إن كان لديكِ خبز فأتيني به فإني قد بلغت وجهدت فقالت نعم الآن ينضج التنور) أوقدت الفرن والفرن ليس فيه شيء فلا تعجل فلما أن سكت عنها ساعة، وتحينت أن يقول لها قالت هي من نفسها لو قمت فنظرت إلى تنوري مع الثقة بما عند الله..فقامت فوجدت تنورها ملآن جنوب الغنم..ورحييها تتطحنان..!!! فقامت إلى الرحى فنفضتها وأخرجت مافي تنورها من جيوب الغنم ..!! قال أبو هريرة فوالذي نفس أبي القاسم بيده عن قول محمد صلى الله عليه وسلم ( لو أخذت مافي رحييها ولم تنفضها لطحنتها إلى يوم القيامة)..!!
قد يقول بعض الناس ماذا نقول في قصة خالد بن الوليد لما شرب السم، أو ما جاء عن عمر أنه أكل مع مجذوم..
قصة خالد مشهورة في كتب التاريخ، أنهم حاصروا حصناً فقال الروم لا نسلّم(نستسلم) حتى تشرب السمّ..، وحكم شربه حرام لا يجوز( من تحسّى سمّاً فقتل نفسه فسمّ تحسّاه في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً) ، خالد في وقت حرج، استسلام هؤلاء يعني حماية المسلمين وإبعاد الأذى عنهم في الحرب والجراحات فيه مصلحة عظيمة، والروم هؤلاء كأنهم يريدون شيء من الكرامات يستسلمون لهؤلاء – تحدّي- فأخذه خالد ثقة بالله وتوكلاً على الله وشرب ولم يضره وسلم الروم..
هذه حالة خاصة ونادرة لم يكن أخذه لها بسبب الانتحار وإنما وجد خالد مصلحة عظيمة للمسلمين و وجد في نفسه توكل على الله كبير وهذا شيء يشعر به ربما بعض أولياء الله في بعض الحالات..، لم يضره من التوكل..، ولكن هذا لا يقع مع أي أحد..
وكذلك تحمل قصة عمر رضي الله عنه لمن أراد الإثبات والبرهنة لمن يعتقد أن العدوى لابد أن تصيب فوجد في نفسه شدة وصحة توكل وقوة في القلب لإثبات للناس أنه لا عدوى ، ولكن هذه حالات خاصة تكون مع أولياء الله وليست القضية على إطلاقها فالأصل باقِ على ماهو عليه..
3-الرجاء
الرجاء: هو ارتياح لانتظار ما هو محبوب عند الإنسان ، لكن هذا يكون لشيء متوقع له سبب فإن لم يوجد له سبب صار تمنياً لأن الإنسان إذا انتظر شيء بدون سبب لا يسمّى راجياً بل متمنياً..!
وأما ماله سبب وينتظر الإنسان محبوباً بسبب عمله هذا هو الرجاء.
فالرجاء هو الاستبشار بجود الله وفضل الرب تعالى والارتياح لمطالعة كرمه ومنّته وهو الثقة بجود الرب وهو حادٍ يحدو القلوب إلى بلاد المحبوب (الجنة) .
ولابد من التفريق بين الرجاء والتمنّي..
الرجاء التمني
حاله كحال رجل شق الأرض وسواها وبذرها وحرثها وتعهدها بالسقيا والماء وأبعد عنها الآفات وقعد ينتظر حصول الثمرة ونماء الزرع فهذا صاحب رجاء. فهو يرجو رحمة الله وثوابه بعد بذل الأسباب.. ليس رجاء شرعياً..
يكون مع الكسل..، فلا يسلك صاحبه طريق الجد والاجتهاد ولا يبذل جهداً ولا توكلاً فهذا حال من يتمنى أن ينبت زرع بدون أن يبذل ، وصاحبه مفلس..

((ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجزّ به)) ليس الإيمان بالتمنّي ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل الحسن.
والرجاء ضروري للسائر إلى الله والعابد لو فارقه لحظة تلف أو كاد يتلف لأن المسلم يدور ما بين ذنب يرجو غفرانه، وعيب يرجو إصلاحه، وعمل صالح يرجو قبوله، واستقامة يرجو حصولها و ثباتها، وقرب من الله يرجو الوصول إليه، لذلك كان الرجاء من أقوى الأسباب التي تعين المرء على السير إلى ربه والثبات على الدين ، وهذا زمن الفتن والشهوات والمحن والشبهات.
أسباب وعوامل الثبات
الرجاء الذي هو ضد اليأس ، واليأس هو تذكر فوات رحمة الله وقطع القلب عن التماسها وهو معصية (( ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون)) قالها يعقوب عليه السلام لأبنائه..
درجات الوصول إلى تحقيق الرجاء
1- ذكر سوابق فضل الله على العبد، أن الله له علينا فضائل سابقة..
2- ذكر وعد الله من جزيل ثوابه وعظيم كرمه وجوده بدون سؤال من العبد استحقاق فإن الله يعطي بدون أن يكون العبد مستحقاً إذا استقام الإنسان.
3- أن تذكر نعم الله عليك في أمر دينك وبدنك ودنياك في الحال(الآن) وأن يمدك بالألطاف والنعم من غير استحقاق ولا سؤال.
4- ذكر سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه وأنه الرحمن الرحيم الغني الكريم الرؤوف بعباده المؤمنين لذلك تحقيق الرجاء يقوم على معرفة أسماء الله وصفاته.
وقد علم أرباب القلوب أن الدنيا مزرعة الآخرة والقلب كالأرض لابد لها من بذر وكذلك لابد للقلب من طاعات والأرض لابد لها من تعاهد وسقي بالماء وحفر أنهار وسوق الماء إليها وكذلك القلب لابد له من تعاهد وأن يسقى بماء الطاعة والعبادة وكذلك الأرض تحتاج حتى تنبت إلى صيانتها عن الأشياء الضارة ، وترى المزارع ينتقي الدغل فينتزعه من أرض حتى لايؤذي زرعه والمؤمن ينقي قلبه من أي شبهة وشهوة حتى لا تفسد عليه زروع الطاعة التي سقاها بماء العبودية..
وقلّ أن ينفع إيمان مع خبث القلب كما لا ينمو البذر في الأرض السبخة إذاً ينبغي أن يقاس رجاء العبد برجاء صاحب الزرع فكل من طلب أرضاً طيبة وألقى بذراً جيداً وسقى وتعاهدها بالرعاية ثم جلس ينتظر فضل الله ..، انتظار هذا يسمى رجاءً، أما إن بذر في أرض سبخة مرتفعة لا يصلها الماء ، هذا غبي أحمق، أما إن بذر في أرض طيبة ولكن لا يصلها الماء وقال أنتظر المطر.، انتظار هذا تمنّي وليس رجاء..!
الرجاء يصدق على انتظار محبوب تمهّدت أسبابه الداخلة تحت اختيار العبد ولم يبق إلا ما ليس في اختيار وإرادة العبد..
لذلك فالإنسان يبذل من الطاعات والعبادات وينتظر فضل الله أن يثبته وأن لا يزله ولا يزيغه حتى الممات ولا يضله حتى يلقاه وهو راضٍ عنه.
الراجي إنسان عنده مواظبة على الطاعات قائم بمقتضيات الإيمان ، يرجو من الله أن لا يزيغه وأن يقبل عمله ولا يردّ عليه، وأن يضاعف أجره و يثيبه ، فهو باذل للأسباب التي يستطيعها يرجو رحمة ربه، ولذلك يكون الذي يقطع البذور ولا يتعاهدها بماء الطاعات أو يترك القلب مشحوناً برذائل الأخلاق منهمكاً في لذات الدنيا ثم يطلب المغفرة يكون حمقاً وغروراً (( فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا))، والكافر صاحب الجنة قال(( ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلباً))، فهو صاحب أماني ولا أعمال صالحة عنده(( ما أظن الساعة قائمة))..!
الرجاء دواء يحتاج له رجلان:
1- رجل غلب عليه اليأس حتى ترك العبادة و جزم أنه ليس هناك فائدة..
2- رجل غلب عليه الخوف حتى أضرّ بنفسه وأهله، فتعدّى خوفه الحد الشرعي المطلوب فلابدّ أن يعدّل ويمدّ بشيء يحدث موازنة وهو الرجاء الذي هو حالة طبيعية عند المؤمن.
فبعض الناس الكلام معه في الرجاء دواء، أما العاصي المغرور المتمني على الله مع الإعراض عن العبادة لا ينفع معه أبداً دواء الرجاء، ولو استعملت معه الرجاء لزدته ضلالاً..، لا ينفع له إلا دواؤ الخوف، فيوعظ بسياط الخوف ويقرّع المنايا، هذا المتمني المتساهل المفرط، فلا يصلح معه أن تحدثه عن الرجاء ، وهذا أمر مهم ينبغي أن يتنبه له الوُعّاظ..
قال بعض العلماء: (يجب أن يكون واعظ الناس متلطفاً معهم ناظراً إلى مواضع العلل معالجاً كل علة بما يليق بها وهذا الزمان لا ينبغي أن يستخدم فيه مع الخلق أسباب الرجاء بل المبالغة في التخويف وإنما يذكر الواعظ فضيلة وأسباب الرجاء إذا كان المقصود استمالة القلوب إليه لإصلاح المرضى)، التخويف ولكن بحيث لا تصل إلى تيئيسهم من رحمة الله..
قال علي رضي الله عنه : (( إنما العالم الذي لا يقنط الناس من رحمة الله ولا يأمّنهم مكر الله))..
لابد أن يكون هناك توازن وحسب حال الناس، فإذا كانوا ميّالين إلى التفريط والمعاصي والتساهل غلّب التهويف وإذا كان عندهم خوف زائد ويأس من رحمة الله غلّب الرجاء.
ثمرات الرجاء
1- يورث طريق المجاهدة بالأعمال.
2- يورث المواظبة على الطاعات كيفما تقلبت الأحوال.
3- يشعر العبد بالتلذذ والمداومة على الإقبال على الله والتنعّم بمناجاته والتلطف في سؤاله والإلحاح عليه.
4- أن تظهر العبودية من قبل العبد والفاقة والحاجة للرب وأنه لا يستغني عن فضله وإحسانه طرفة عين.
5- أن الله يحب من عباده أن يسألوه ويرجوه ويلحّوا عليه لأنه جواد كريم أجود من سُئِل وأوسع من أعطي وأحب ما إلى الجواد الكريم أن يسأله الناس ليعطيهم ومن لا يسأل الله يغضب عليه والسائل عادة يكون راجٍ مطالب أن يُعطى فمن لم يرجو الله يغضب عليه، فمن ثمرات الرجاء التخلّص من غضب الرب.
6- الرجاء حادٍ يحدو بالعبد في سيره إلى الله فيطيب المسير ويحث على السير ويبعثه على الملازمة، فلولا الرجاء بـ(المضاعفة-رحمة الله-الأجور والثواب المضاعف-الجنة والنعيم) ما سار أحد، والقلب يحركه الحب ويزعجه الخوف ويحدوه الرجاء.
7- يطرح على عتبة محبة الله عزوجل ويلقيه في دهليزها فكلما اشتد رجاؤه وحصل له ما يرجوه؛ ازداد حباً لربه وشكراً له ورضا، وهذا من مقتضيات وأركان العبودية.
8- الرجاء يبعث العبد على مقام الشكر لأنه يحفزه للوصول إلى مقام الشكر للنعم وهو خلاصة العبودية.
9- الرجاء يوجب المزيد من التعرف على أسماء الله وصفاته .
الخوف مستلزم للرجاء والرجاء مستلزم للخوف عند المؤمن، لأن كل خائف راجي وكل راجي خائف، ولهذا حسن وقوع الرجاء في مواضع يحسن فيه وقوع الخوف (( مالكم لا ترجون لله وقاراً))..قال المفسرين: مالكم لا تخافون لله عظمة ، فكل راجٍ خائف من فوات مرجوّه، هذا يفسّر لنا كيف أن الرجاء مرتبط بالخوف وأن الراجي خائف أن يفوت مطلوبه ورحمة الله وجنته.
انظر إلى التداخل العجيب بين مقامات الإيمان في قلب المؤمن، والخوف بلا رجاء يأس وقنوط..!!!
قال تعالى: (( قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله )) أي لا يخافون وقائع الله بهم كما وقعت في الأمم الذين من قبلهم من التدمير والإهلاك.
10- ثم إن العبد إذا تعلق قلبه برجاء ربه فأعطاه ما رجاه فحصل المطلوب يحصل مزيد من التشجّع وسؤال المزيد والإقبال على الله وهكذا لا يزال العبد في ازدياد في الإيمان والقرب من الرحمن.
11- على قدر رجاء العباد وخوفهم يكون فرحهم يوم القيامة بحصول المرجو الأعظم وهو نيل رضا الرب والجنة ورؤية الله فيها .
وكذلك فإن الله يريد من العبد أن يكمل نفسه بمراتب العبودية من الذل والانكسار لله والتوكل عليه والاستعانة به والخوف منه والصبر على أقداره والشكر له وعلى إنعامه ولذلك يقدر الذنب على العبد لتكمل مراتب العبودية عند العبد فيستغفر العبد، فلولا الذنب ما حصل انكسار ولا توبة، يبتليهم بالذنوب ليعالج ما في قلوبهم بالانكسار وطلب التوبة فينكسر بين يدي الله فيتحقق معنى مهم جداً جداً من معاني العبودية..!!
كيف تتحقق العبودية إذا لم يكن هناك انكسار وذل وخضوع..؟!!، أحياناً لا يصدر الإنكسار والذل هذا إلا بذنب يتوب منه العبد ويعرف تقصيره والبلية التي وقع فيها وحجم المعصية.
الرجاء فيه انتظار وترقّب وتوقع لفضل الله عزوجل فيتعلق القلب أكثر بخالقه..
أنواع الرجاء
الرجاء ثلاث أنواع، نوعان محمودان ونوع غرور مذموم..
1- رجاء رجل عمل بطاعة الله على نور من الله فماذا يرجو؟ ثواب الله..
2- رجل أذنب ذنوباً ثم تاب منها فماذا يرجو؟ يرجو مغفرة الله ومحو الذنوب والتجاوز عنها وسترها..
3- رجل متمادي في التفريط والمعاصي والسيئات ويرجو رحمة ربه والمغفرة بلا عمل!! فهذا غرور وتمني ورجاء كاذب لا يعتبر رجاء محموداً أبداً..
والمؤمن عندما يسير إلى الله له نظران: نظر إلى نفسه وعيوبه وآفات عمله من العجب والرياء والاغترار بالعمل وهذا يفتح عليه باب الخوف من الله، وينقله بعد ذلك إلى سعة كرم الله وفضله وبره ومغفرة ذنوبه ويفتح له باب الرجاء،وهذا هو النظر الثاني ولهذا قيل في حد الرجاء وتعريفه هو النظر إلى سعة رحمة الله عزوجل ولابد من الموازنة بين الخوف والرجاء كما قال العلماء: (( العبد في سيره إلى الله كالطائر يطير بجناحين، جناحي الطائر إذا استويا استوى الطائر وتم طيرانه وإذا نقص أحدهما اختلّ نوعاً ما وإذا ذهب الجناحان صار الطائر في حدّ الموت))، ما هما الجناحان في سير العبد إلى ربه؟ هما الخوف والرجاء.
وقد سُئِل أحمد بن عاصم رحمه الله : ما علامة الرجاء في العبد؟ قال: أن يكون إذا أحاط به الإحسان أُلهِم الشكر راجياً لتمام النعم عليه في الدنيا والآخرة وتمام عفوه عنه في الآخرة..
هنا علماء القلوب أصحاب النظر والتأمل في الأمور الإيمانية اختلفوا..، أي الرجاءين أعظم..؟ رجاء الثواب والأجر من المحسن؟ أو رجاء المغفرة من التائب المسيء؟!!!
فرجحت طائفة رجاء المحسن لقوة أسباب الرجاء معه ، فعنده طاعات و أسبابه قوية فيرجو على حقّ، والأخرى رجحت رجاء المذنب لأن رجاءه من انكسار ومسكنة مقرون بذلة رؤية الذنب واستحضار المعصية خالص من العجب والاغترار بالعمل ، الحاصل أم كلا القولين له حظ من النظر، فكلا الرجاءين محمود ولابد من تحصيلهما معاً ولا يستغنى بهذا عن هذا ، لأن المسلم إما أن يكون في طاعة يرجو قبولها أو معصية يريد غفرانها ومحوها.
أسباب قوة الرجاء على حسب قوة المعرفة بالله وأسمائه وصفاته وغلبت رحمته غضبه، ولولا روح الرجاء لتعطلت عبودية القلب والجوارح وهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً..، بل لولا روح الرجاء لما تحركت الجوارح بالطاعة ولولا ريحه الطيبة لما جرت سفن الأعمال في بحر إرادات العبد وعلى حسب المحبة وقوتها يكون الرجاء(العلاقة بين المحبة والرجاء) وكل محب راجٍ خائف بالضرورة فهو يرجو من يحبه أن يعطيه ما ينفعه ويخاف أن يسقط من عينه وأن يطرده وأن يبعده ويحتجب عنه لذلك خوف المحب شديد ورجاؤه عظيم ، لكن هل إذا وصل إلى محبوبه ينتهي الرجاء أم لا..؟!!أم يشتد..؟!! وماذا يحصل له بالموت..؟!!
المؤمن قبل الموت عنده رجاء وخوف عظيمين، أما إذا مات قالوا أن خوفه ورجاؤه ذاتي للمحبة ، يرجو ربه قبل لقائه والوصول إليه فإذا لقيه ووصل إليه بالموت اشتد الرجاء له بما يحصل له بهم من حياة روحه ونعيم قلبه من الألطاف، فالرجاء بما عند الله يزداد ، وعنده أعمال صالحة يريد عليها الأجر والثواب والخوف أيضاً يزيد لأن الموت قرّبه إلى النار، والقبر أول منازل الآخرة، فقد دخل إلى المرحلة الخطيرة جداً..
لذلك لا يمكن أن تقول أن الميت تنقطع مشاعره بل يمكن أن تعظم !!مشاعرهم متضاعفة لأنهم اقتربوا إلى دار الخلد..إلى نعيم أو عذاب.. فيمكن أن تكون بهذا في القبر فمن الآن زّود نفسك بالطاعات واترك المعاصي لتزيد عندك أسباب الرجاء وتأمن في القبر ، الخوف في القبر مصيبة، إذ يخاف من سوء المطلع والذي يمكن أن يرتكس فيه إذا قامت الساعة ويدخله من عذاب الله فإذاً الآن هو الآن يشتد في العمل حتى إذا لقي الله صار طلبه للجنة وأمن الخوف..
الكفار ما حالهم في قبورهم..؟
آل فرعون ، فرعون وجنوده، (( النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم القيامة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب)) معناها أنهم الآن في قبورهم خوفهم يتضاعف كل يوم!!وهم يعرفون في أي حفرة سيقعون فكيف الآن خوفهم وذعرهم..؟!! نسأل الله السلامة والعافية.
وإذا وصل العبد إلى ربه ولقيه ازداد رجاؤه إذا كان محسناً لأن الأجير إذا جاء وقت الراتب ازداد رجاؤه في الذي سيحصل عليه فإذا قدم العباد هؤلاء المحسنون على الله وكلما مضى زمن كلما ازداد رجاؤهم فيما سيحصلون عليه وينتظرونه في قبورهم (( ربي أقم الساعة)) كي يرجع إلى أهله ومال لأنه فتح له باب إلى الجنة في القبر فهو يأتيه من النعيم والطيب فيقال له: (( اسكن ونم كنومة العروس لا يوقظه إلا أحب الناس إليه)).
درجات الرجاء
الرجاء درجات، درجة أرفع من درجة، ومراتب بعضها فوق بعض :
1- الدرجة الأولى:
رجاء يبعث العامل على الاجتهاد بالعبادة بل يولد عنده اللذة بالعبادة ولو كانت شاقة أو صعبة فيتلذذ بها ويترك المناهي، ومن عرف القدر المطلوب هان عليه ما يبذل فيه ومن رجا الأرباح العظيمة في سفره هانت عليه مشقة السفر ، كذلك المحب الصادق الذي يسعى في مرضاة الرب تهون عليه مشقة صلاة الفجر والوضوء في البرد ومشقة الجهاد و مشقة الحج والعمرة وطلب العلم وتكرار الحفظ وانتصاب الجسم في الليل وجوع الصيام.. ، بل تنقلب إلى لذّة..!!
فالدرجات العملية في التعبد لله: مشقة ومن ثم لذة، يقول أحد العلماء: " كابدت قيام الليل 20 سنة ثم تنعمت به 20 سنة"، فالمرء لا يصل أحياناً إلى لذة العبادة إلا بعد أن يذوق مشقتها، فإذا قوي تعلق الرجاء بالعوض سمحت الطباع بترك العادات وترك الراحة، فالإنسان مفطور أن لا يترك محبوباً إلا لمحبوب أعظم منه .
2- الدرجة الثانية:
المجاهدون لأنفسهم بترك مألوفاتها واستبدال مألوفات هي خير منها فرجاؤهم أن يبلغوا مقصودهم بالهمة وهذا يلزم له العلم وهو الوقوع على الأحكام الدينية لأن رجاؤهم متعلق بحصول ذلك لهم ولابد من علم وبذل الجهد بالمعرفة والتعلّم وأخذ النفس بالوقوف عند الحدود طلباً وقصداً..
3- الدرجة الثالثة
رجاء أرباب القلوب لقاء الخالق والاشتياق إليه سبحانه وتعالى وهذا الذي يمكن أن يزهّد الإنسان في الدنيا تماماً (أعلى الأنواع) ، ((فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً))، ((من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت))، هذا الرجاء (اللقيا) محض الإيمان وزبدته وإليه تشخص أبصار العابدين المجتهدين وهو الذي يسليهم ولذلك ضرب الله لهم أجل تسكن إليه نفوسهم..
عمير بن حمام الأنصاري لما ذكر لهم الرسول صلى الله عليه وسلم : (قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض) اشتاقت نفسه إلى لقيا الله فقال: (لئن عشت حتى آكل هذه التميرات إنها لحياة طويلة) فقاتل حتى قُتِل ولقي الله شهيداً ..
فلما علم الله شوق هذه الطائفة من عباده وهم الندرة والقلة وأن نفوسهم تضطرب حتى تلقها؛ضرب لهم موعداً تسكن إليه نفوسهم وتعمل حتى تقدم إلى الله.
سئل شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله عن قول علي رضي الله عنه : ( لا يرجون عبدٌ إلا ربه ولا يخافنّ إلا ذنبه) فقال: الحمد لله،هذا الكلام يؤثر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وهو من أحسن الكلام وأبلغه وأتمه فإن الرجاء يكون للخير والخوف يكون من الشر والعبد إنما يصيبه الشر بذنوبه (( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير)) لذلك قال علي رضي الله عنه : (لا يخافن عبد إلا ذنبه ) وإن سلط عليه مخلوق فما سلط عليه إلا بذنوبه (( وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون ))فليخف الله وليتب من ذنوبه التي ناله بها ما ناله كما في الأثر: ( يقول الله: أنا الله مالك الملوك قلوب الملوك ونواصيهم بيدي من أطاعني جعلتهم عليه رحمة ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة فلا تشتغلوا بسبّ الملوك وأطيعوني أعطّف قلوبهم عليكم)، فإن الراجي يطلب حصول الخير ودفع الشر ولا يأتي بالحسنات إلا الله ولا يذهب السيئات إلا الله (( وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله))، (( ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده)).
والرجاء مقرون بالتوكل، فإن المتوكل يطلب ما رجاه من حصول المنفعة ودفع المضرة، والتوكل لا يجوز إلا على الله(( وعلى الله فليتوكل المتوكلون))ومن توكل على غير الله ورجاه خذل من جهته وحرم إن لم يكن في الدنيا؛ في الآخرة حين يقال: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤونهم فاطلبوا منهم الأجر..!، ((مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لوكانوا يعلمون))، (( واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزاً كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضداً))، فمن عمل لغير الله رجاء أن ينتفع بما عمل له كانت صفقته خاسرة، قال تعالى: (( والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً و وجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب)).
فالذين كفروا أعماله كرماد اشتدت به الريح أي أصبح أخف من التراب في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء، (( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثورا)) فكل عمل باطل إلا ما أريد به وجه الله ومن عمل لغير الله ورجاه بطل سعيه.
أنواع الرجاء من حيث الراجي
الراجي يكون راجياً تارة بعمل يعمله لمن يرجوه، وتارة باعتماد قلبه عليه والتجائه إليه وسؤاله فذاك نوع من العبادة وهذا نوع من الاستعانة فإذاً((إياك نعبد وإياك نستعين)).
1- بيان رجاء المؤمنين وهوالرجاء المصحوب بعمل : ((إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله ))، الذين صدقوا بالله ورسوله وما جاء به وتركوا ديارهم وأحبابهم وأوطانهم وتغربوا عن أمصارهم وتحولوا عن بيوتهم هجرة إلى اللخ وجاهدوا بأنفسهم وأموالهم وقدموا وبذلوا وقاتلوا وحاربوا وتحملوا الجراحات وألم طريق الجهاد والمخمصة والجوع والظمأ والنصب ؛ هؤلاء يرجون رحمة الله عنهم الله ويطمعون أن يرحمهم فيدخلهم جنته سبحانه وتعالى..
2- الله عز وجل فتح باب الرجاء لعباده حتى في مغفرة أي ذنب كما قال تعالى : (( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)) فهذه الآية قيل أنها نزلت بعد قوله تعالى : (( قلل يا عبداي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً)) فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم والشرك؟ فكره رسول الله ذلك فنزلت هذه الآية(( إن الله لا يغفر أن يشرك به)) والمقصود أن الله لا يغفر للمشرك إذا مات على الشرك، ولا يدخل المشرك تحت المشيئة وأما إذا تاب المشرك فإن الله يغفر له ذنبه حتى لو كان الشرك.. والآية في المشيئة وليست في نفي المغفرة عن التائب عن الشرك..
3- (( قل لمن مافي السموات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون)) قال ابن جرير: قضى أنه بعباده رحيم فكيف تتمثل هذه الرحمة؟ قال: لا يعجل عليهم العقوبة مع أنهم مستحقون بل يصبر ويحلم ويقبل منهم الإنابة والتوبة فهذا يعلقهم بالرجاء(( وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلامٌ عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم))، قال ابن جرير: فتأويل الكلام إذا كان الأمر على ما وصفنا وإذا جاءك يا محمد القوم الذين يصدقون بتنزيلنا وأدلتنا فيقرون بذلك قولاً وعملاً مسترشديك عن ذنوبهم التي سلفت منهم بيني وبينهم هل لها من توبة؟ فلا تيأسهم منها وقل لهم سلام عليكم أمنة الله لكم من ذنوبكم أن يعاقبكم عليها أي عليكم الأمان لن يعاقبكم بعد توبتكم منها ..، كتب ربكم على نفسه الرحمة أي قضى الرحمة بخلقه سبحانه وتعالى..
((وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم * خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيه بها وصلي عليهم....)) قال ابن جرير: يعني جل ثناؤه بالعمل الصالح الذي خلطوه والعمل السيء اعترافهم بذنوبهم وتوبتهم منها، والآخر السيء تخلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج غازياً عسى الله أن يتوب عليهم ،وعسى من الله واجبة، يعني سيتوب فعلاً وحقاً.
4- الرجاء مفتوح حتى في أمور الدنيا ، يرجو مال ، ولد ، زواج،وظيفة، زوال مرض، وجود مفقود، فيعقوب عليه السلام علم أبناءه الرجاء حتى في المفقودات الدنيوية ((يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون)) ، قال ابن جرير: حين طمع يعقوب في يوسف قال لبنيه يا بني اذهبوا للموضع الذي جئتم منه وخلفتم أخويكم به ولا تيأسوا من روح الله ولا تقنطوا من أن يروّح الله عنا ما نحن فيه من الحزن و يفرّحنا برؤيتهما إنه لا ييأس من روح الله ولا يقنط من فرجه ورحمته ولا يقطع الرجاء منه إلا القوم الكافرون.
5- (( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم)) فلا تيأسوا من رحمة الله أن الله يغفر لكم ذنوبكم كلها ولا يبقي منها شيئاً ولا نصفها ولا بعضها ولا الكبائر فقط وليس الخطاب للذين عندهم معاصي قليلة بل أسرفوا وكثرت معاصيهم وكبائرهم وصغائرهم، لا تقنطوا من رحمة الله ، فهذا أمر من الله بالرجاء، فالكريم إذا أمر بالرجاء لا يليق به إلا الكرم ، فابذل السبب، واستغفر وتب توبة حقيقية وامتنع عن الذنوب وأصلح واستقبل حياة نظيفة واندم على ما فات واعزم على أن لا تعود إليه.
6- الحديث القدسي: (( يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة)) هذا الرجاء العظيم الذي يفتحه الله عزوجل ، هذا فتح باب الرجاء للعباد .
7- إن الإنسان له عند الموت أحوال في الخوف والرجاء خاصة مبنية على حسن ظنه بالله: ((أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فليظن بي عبدي ما شاء)) ، قادر على أن أعمل به ما ظن أني عامل به ، لذلك الثلاثة الذين خلفوا لما ظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه تاب الله عليهم، فبالنسبة للموت يجب أن نجهز أنفسنا لتلك اللحظات لتفيض أرواحنا ونحن نحسن الظن بالله، والرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بثلاث أيام أعطى الأمة هذه الوصية التي رواها مسلم : (( لا يموتنّ أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عزوجل)) ، فهذا تحذير من القنوط وحث على الرجاء عند الخاتمة..
لهذا بعض السلف كان يأمر بنيه عند الموت أن تقرأ عليه آية الرحمة ؛ حتى تطلع روحه وهو محسن الظن بالله أن يغفر له ويرحمه ويتقبله ويستقبله بالإنعام ، وكذلك فإن الإنسان إذا صدق بالتوبة ولو تكرر الذنب فإن الله يغفر له ما أذنب، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً، قال: ألا أبشّر به الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا..
هذا دليل كما قال ابن رجب: قال العلماء: يؤخذ من منع معاذ من تبشير الناس لئلا يتكلوا أن أحاديث الرخص لا تشاع في عموم الناس لئلا يقصر فهمهم عن المراد بها، يقول ابن رجب: وقد سمعها معاذ فلم يزدد إلا اجتهاداً في العمل ، وخشية لله عزوجل فأما من لم يبلغ منزلته فلا يأمن أن يقصر إتكالاً على ظاهر الخبر ..
ومعاذ من العشرة المبشرين بالجنة ، وفقيه لا يخشى عليه..
كذلك عثمان فقد قال عنه صلى الله عليه وسلم : (( ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم)) ،ماذا فعل ..؟‍!، لقد ازداد في الخير والبر والطاعات، هذه النفوس الله يعلم لو بشرهم برضوانه فإنهم لن يتركوا الخيرولن ينتكسوا، لذلك فأحاديث الرخص لا تشاع في عموم الناس ففيهم قلة فقه في الدين ويحتاجون عند التفريط إلى التخويف..
ثم إن الشرك شرك أكبر وأصغر وخفي، ومن الذين ينجو منه؟ ، ثم إن الحديث مقيد عند العلماء بالآيات و الأحاديث الأخرى التي فيها التعذيب على المعصية، وبعض العلماء حملوها على ترك دخول نار الشرك، لأن جهنم فيها دركات(نار الشرك-نار الكبائر-نار المعاصي-...) حملوه حتى لا يفهم خطأ على أنه لا يدخل نار الشرك..
القاعدة العامة (( ليس بأمانيكم ولا أما ني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به)) ، فالسلف خوفتهم هذه الآية جداً فلذلك كانوا يعملون ويخافون..
ومن أحاديث الرجاء التي تقال لإنسان مذنب تاب، وبالرغم من التوبة صار عنده نوع من اليأس والإحباط ويرى ذنوبه كبيرة وليس هناك فائدة من العمل، فهو كما يظن محكوم عليه بالنار : (( إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره فيقول أتعرف ذنب كذا أتعرف ذنب كذا فيقول نعم أي رب حتى إذا قرره بذنوبه ورأى نفسه هلك قال سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم فيعطى كتاب حسناته وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين)).
عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رجل أصاب من امرأة قبلة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فأنزل الله (( أقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات)) فقال الرجل : ألي هذه؟ قال: لجميع أمتي كلهم . {رواه البخاري ومسلم}.
تصريح أن الحسنات تكفر السيئات، وهل هي حسنات معينة كالصلوات الخمسة؟ أو هي الحسنات مطلقاً كما قال العلماء وبعضهم بهذا وبعضهم بهذا..
في مرض الموت قيل للشافعي كيف أصبحت يا أبا عبدالله؟ قال : أصبحت من الدنيا راحلاً ولأخواني مفارقاً ولكأس المنية شارباً ولا أدري أءلى الجنة تسير روحي فأهنيها أم إلى النار فأعزيهاثم أنشأ يقول..
ولما قسى قلبي وضاقت مذاهبي
جعلت الرجا مني لعفوك سلّماً
تعاظمني ذنبي فلما قرنته
بعفوك ربي كان عفوك أعظم
(( من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه))، (( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون)).
ولابد من الجمع بين الخوف والرجاء.
-4الخوف
من مادة خ و ف التي تدل على الذعر والفزع في اللغة العربية، خفت الشيء خوفاً وخيفة وخوّف الرجل جعل الناس يخافونه (( إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه)) أي يجعلكم تخافون أولياءه أي يخوّفكم بأوليائه.
والخوف توقع مكروه لعلامة مظنونة أو معلومة، وهو ضد الأمن ويستعمل في الأمور الدنيوية أو الآخروية فهو توقع حلول مكروه أو فوات محبوب،اضطراب القلب وحركته أو فزعه من مكروه يناله أو محبوب يفوته.
قال ابن قدامة: اعلم أن الخوف عبارة عن تألم القلب واحتراقه بسبب توقع مكروه في الاستقبال ..
مثال ذلك: من جنى على ملك جناية ثم وقع في يده فهو يخاف القتل ويجوّز العفو "احتمالات" ولكن يكون تألم قلبه بحسب قوة علمه بالأسباب المفضية إلى قتله وتفاحش جنايته وتأثيرها عند الملك،وبحسب ضعف الأسباب يضعف الخوف،وقد يكون الخوف لا عن سبب جناية بل عن صفة الذي يُخاف عظمة وجلالاً فإنه إذا علم أن الله سبحانه وتعالى لو أهلك العالمين لم يبالي ولم يمنعه مانع فبحسب معرفة الإنسان بعيوب نفسه وبجلال الله وأنه لا يسأل عما يفعل يكون الخوف على حسب هذا فهو مطالعة القلوب لسطوات الله عزوجل ونقمه فيولد في القلب الخوف"خوف الوعيد".
والخشية أخص من الخوف فإن الخشية للعلماء بالله (( إنما يخشى الله من عباده العلماء))،خوفاً مقروناً بمعرفة ..، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((إني أتقاكم لله وأشدكم له خشية))، فالخوف لعامة المؤمنين والخشية للعلماء والعارفين، وعلى حسب قدر العلم والمعرفة يكون الخوف والخشية..
فصاحب الخوف يلجأ إلى الهرب، وصاحب الخشية يلجأ إلى الاعتصام بالعلم ، قال الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله - : (( الخشية خوف مبني على العلم بعظمة من يخشى وكمال سلطانه))..
فإذا خفت من شخص لا تدري هل يقدر عليك أم لا فهذا خوف وإذا خفت من شخص تعلم أنه قادر عليك فهذه خشية..
قال ابن القيم – رحمه الله - : (( في مثلهما مثل من لا علم له بالطب ومثل الطبيب الحاذق، فالأول يلجأ إلى الحمية والهرب لقلة معرفته والآخر يلتجئ إلى الأدوية )) فالخشية خوف مبني على علم..
وقد ورد الخوف في القرآن على وجوه منها..
1- القتل والهزيمة : ((وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف))، (( ولنبلونكم بشيء من الخوف )).
2- الحرب والقتال: (( فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد)) إذا انجلت الحرب ،(( فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت)).
3- العلم والدراية : ((فمن خاف من موصٍ جنفاً)) أي علم ، ((إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله )) أي يعلما، ((وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى)) أي علمتم.
4- النّقْص: ((أو يأخذهم على تخوّف)).
5- الرعب والخشية من العذاب والعقوبة : (( يدعون ربهم خوفاً)).
قال ابن قدامة: (( اعلم بأن الخوف سوط الله يسوق الله به عباده إلى المواظبة على العلم والعمل لينالوا بهما رتبة القرب من الله عزوجل، والخوف سراج القلوب به يبصر ما فيه من الخير والشر))..
وكل أحد إذا خفته هربت منه إلا الله عزوجل فإنك إذا خفته هربت إليه ، فالخائف هارب من ربه إلى ربه فأين المفر..؟!!!، وما فارق الخوف قلباً إلا خربه فإذا سكن الخوف القلوب أحرق مواضع الشهوات فيها وطرد الدنيا عنها..
فكم أطلق الخوف من سجين في لذته كانت قد استحكمت عليه سكرته وكم فك من أسير للهوى ضاعت فيه همته وكم أيقظ من غافل التحف بلحاف شهوته وكم عاق لوالديه رده الخوف عن معصيته، وكم من فاجر في لهوه قد أيقظه الخوف من رقدته، وكم من عابدٍ لله قد بكى من خشيته وكم من منيب إلى الله قطع الخوف مهجته وكم من مسافر إلى الله رافقه الخوف في رحلته وكم من محبٍّ لله ارتوت الأرض من دمعته، فلله ما أعظم الخوف لمن عرف عظيم منزلته..
والخوف ليس مقصوداً لذاته ، ليس المقصود أن نخاف لأجل أن نخاف بل نخاف ليكون الخوف وسيلة تصلح أحوالنا.
لو كان الخوف مقصوداً لذاته لما ذهب عن أهل الجنة!!، لكن لما كان دخول أهل الجنة الجنّة مهياً القضية وما هو مطلوب منهم وليس فيها عمل ولا اجتهاد في العبادات ومقاومة للهوى والشهوات كان الخوف من أهلها ذاهب (( لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون)).
ومن خاف اليوم أمِنَ غداً.. ومن أمِن اليوم خاف غداً.
والخوف يتعلق بالأفعال ، والمحبة تتعلق بالذات والصفات، ولهذا تتضاعف محبة المؤمنين لربهم إذا دخلوا دار النعيم ولا يلحقهم فيها خوف.
قال ابن رجب : (( والله خلق الخلق ليعرفوه ويعبدوه ويخشوه ونصب الأدلة الدالة على عظمته وكبريائه ليهابوه ويخافوه خوف الإجلال ووصف لهم شدة عذابه ودار عقابه التي أعدها لمن عصاه ليتقوه بصالح الأعمال )).
لذلك كرر الله سبحانه وتعالى ذكر النار وما أعده الله فيها لأعدائه من العذاب والنكال وما احتوت عليه من الزقوم والضريع والحميم والسلاسل والأغلال إلى غير ذلك مما فيه من العظائم والأهوال ودعا عباده بذلك إلى خشيته وتقواه وامتثال والمسارعة إلى ما يأمر به ويحبه ويرضاه واجتناب ما ينهى عنه ويكرهه ويأباه، فمن تأمل الكتاب الكريم وأدار فكره فيه وجد ذلك العجب العجاب وكذلك السنة الصحيحة المفسّرة للقرآن وكذلك سير السلف الصالح أهل العلم والإيمان من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، من تأملها علم أحوال القوم وما كانوا عليه من الخوف والخشية والإخبات وأن ذلك هو الذي رقاهم إلى تلك الأحوال الشريفة والمقامات الساميات من شدة الاجتهاد في الطاعة والكف عن المحرمات ودقائق الأعمال المكروهات فضلاً عن المحرمات..
الخوف منازل ودرجات ..
القدر الواجب من الخوف ما حمل على أداء الفرائض واجتناب المحارم فإن زاد على ذلك، بحيث صار باعثاً للنفوس على التشمير في نوافل الطاعات والكف عن دقائق الكروهات (يعني فعل المستحبات وترك المكروه والشبهة)، كان ذلك خوفاً محموداً فإن تزايد الخوف بحيث أدّى إلى مرض أو موت أو همٍّ لازم أو قعود عن العمل بحيث يقطع السعي عن اكتساب الفضائل المطلوبة المحبوبة إلى الله عز وجل لم يكن خوفاً محموداً.
بعض الناس من شدة خوفهم من العذاب والنار يصابون باليأس والاحباط والقعود عن العمل ويقولون لا فائدة!!..، ليس هذا هو المطلوب ..، وهذه الزيادة مذمومة..
الخوف المطلوب: الذي يحمل على فعل المستحبات وفعل الواجبات قبلها وعلى ترك الشبهات والمكروهات وترك المحرمات قبلها وهناك خوف ضعيف أقل من هذا ، لا يؤدي إلى ترك المحرمات كلها أو فعل الواجبات كلها فهو خوف ناقص..
ذكر البخاري في قوله : (باب الخوف من الله عز وجل ).
قال ابن حجر: هو من المقامات العليّة وهو من لوازم الإيمان ، قال الله تعالى : ((وخافونِ إن كنتم مؤمنين))(( فلا تخشوهم واخشونِ))((إنما يخشى الله من عباده العلماء))، وتقدم حديث (( أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية ))، وكلما كان العبد أقرب إلى ربه كان أشد له خشية ممن دونه وقد وصف الله الملائكة بقوله : (( يخافون ربهم من فوقهم ))، والأنبياء بقوله : (( الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله )) ، وإنما كان خوف المقربين أشد لأنهم يطالبون بما لا يطالب به غيرهم فيراعون تلك المنزلة ولأن الواجب لله منه الشكر على المنزلة فيضاعف بالنسبة لعلو تلك المنزلة..
فالعبد إن كان مستقيماً فمن أي شيء يخاف؟!!، فخوفه من سوء العاقبة لقوله تعالى : (( واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه))، وكذلك يخاف من نقصان الدرجة..
وإن كان مائلاً منحرفاً وعاصياً فخوفه من سوء فعله و ينفعه ذلك مع الندم والإقلاع..
متى ينفع الخوف؟
ينفع مع الندم والإقلاع، فإن الخوف ينشأ من معرفة قبح الجناية والتصديق بالوعيد أو أن يحرم التوبة أو لا يكون ممن شاء الله أن لا يغفر له.
الخوف من الله؟
الخوف من الله واجب، وهو من أجل منازل الطريق وأنفعها للقلب وهو فرض على كل أحد كم قال ابن القيم، إذاً يجب الخوف من الله ومن لا يخف فهو آثم.
قال ابن الوزير: (( أنا الأمان فلا سبيل إليه ، وهو شعار الصالحين)).
أدلة وجوب الخوف
1- ((إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين)) ، قال ابن سعدي –رحمه الله- : (( وفي هذه الآية وجوب الخوف من الله وحده وأنه من لوازم الإيمان فعلى قدر إيمان العبد يكون خوفهم من الله)).
2- (( وإياي فارهبون)) ، والأمر يقتضي الوجوب.
3- (( فلا تخشوا الناس واخشون)) ، قال ابن سعدي: أمر الله بخشية الله التي هي رأس كل خير فمن لم يخشَ الله لم ينكفّ عن معصته ولم يمتثل أمره)).
4- إن الله امتدح أهل الخوف ، فقال: (( الذين هم من خشية ربهم مشفقون..))((أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون)).
عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم : ((سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية (( الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة)) أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال : لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا يقبل منهم)).
((أولئك الذين يسارعون في الخيرات)) قال الحسن: عملوا لله بالطاعات واجتهدوا فيها وخافوا أن ترد عليهم
5- والتخويف من عذاب الله أحد مهمات الرسل (( وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين)) والإنذار هو الإعلام بالشيء الذي يخيف ، فالإنذار في لغة العرب كما قال الراغب الأصفهاني في مفرداته: الإنذار إخبار فيه تخويف كما أن التبشير إخبار فيه سرور.
وقد وصف الله تعالى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأنه نذير في مواضع كثيرة..
- جمع قومه على الصفا وقال إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد (أنا النذير العريان)، وقد كان العرب إذا رأى أحدهم جيشاً يغير على قبيلته قد اقترب وهو في الخارج ولا تدري قبيلته جاء يركض ويخلع ثيابه وهو يصرخ حتى يبين لهم هول المصيبة التي ستنزل بهم وفداحة الخطر ، وهذه أشد أنواع النذارات عند العرب.
- (وقل إني أنا النذير المبين).
- (ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين).
- كان من أوائل أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم هو الإنذار (يا أيها المدثر قم فأنذر)، خوف الناس عذاب الله جهنم ، بأس الله وانتقامه..، قال القرطبي: خوف أهل مكة وحذرهم العذاب إن لم يسلموا.
وقد وصف الله العذاب في كتابه في عدة مواضع لتحقيق الخوف في نفوس عباده ليتقوه ، كما قال تعالى: ((لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده يا عبادِ فاتقون)).
قال ابن كثير: ( يخوف الله عباده) إنما يقص خبر هذا الكائن لا محالة ليخوّف به عباده. قال : لينزجروا عن المحارم والمآثم.(يا عبادِ فاتقون) أي اخشوا بأسي وسطوتي وعذابي ونقمتي.
وبين سبحانه أن مايرسله من الآيات لتصديق الأنبياء عليهم السلام كناقة صالح إنما يرسله من أجل التخويف(( وآتينا ثموداً ناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا)).
كذلك الآيات الكونية كالخسوف والكسوف وغيرها.
وكذلك قال الله في البرق والرعد: ((هو الذي يريكم البرق خوفاً وطمعاً وينشيء السحاب الثقال)).
من فوائد الخوف
1- أن الله جعله شرطاً لحصول الإيمان ( فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين). قال ابن جرير: لا تخافوا أيها المؤمنين المشركين ولا يعظمن عليكم أمرهم ولا ترهبوا جمعهم مع طاعتكم إياي فأطعتموني واتبعتم أمري وإني متكلف لكم بالنصر والظفر ولكن خافوني واتقوني أن تعصوني أن تخالفوا أمري فتهلكوا إن كنتم مؤمنين فالله عزوجل أولى أن يخاف منه من الكفار والمشركين.
2- ابتلى الله الصحابة رضي الله عنهم بابتلاء عظيم ليظهر الذي لا يخاف من الذي يخاف في الصيد (( يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم)). ليختبرنكم الله أيها المؤمنون ببعض الصيد في حال الإحرام كي يعلم أهل طاعة الله والإيمان به المنتهون إلى حدوده وأمره ونهيه، يختبر ليظهر من الذي يخاف الله والذي لا يخافه (( ليعلم الله من يخافه بالغيب))، يعني يبتليهم بالصيد يغشاهم في رحالهم، يتمكنون من أخذه بالأيدي والرماح سراً وجهراً ومحرم عليهم الصيد في الإحرام لتظهر طاعة من يطيع منهم في سره وجهره ومن لا يطيع ، أما الصحابة فنجحوا في ذلك ، وأما اليهود ففشلوا عندما حرم الله عليهم الصيد يوم السبت فاستحلوا محارم الله بأدنى الحيل، فنصبوا الشباك يوم الجمعة وسحبوها يوم الحد، فلم يخافوا الله فهلكوا. فالمرء قد يتعرض أحياناً لمعصية أو شهوة والوقوع فيها يسير جداً وقد تكون الفضيحة مأمونة (( ليعلم الله من يخافه بالغيب))،وكما في قصة يوسف وامرأة العزيز، هنا يكون الاختبار والبلاء.
3- الخوف من الله عبادة قامت في قلب النبي صلى الله عليه وسلم فارتفعت نفسه عن المحرمات والمحظورات لأنه يخاف رب الأرض والسموات (( ققل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين)). فهو يخشى عذاب الله ولا يتعد حدوده.
4- الخوف من الله من صفات أولي الألباب (( أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب* الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب)).الخوف من الله يدل على أن صاحبه صاحب عقل ، من أولي الألباب أي راجح العقل يعرف الشيء الذي يخوّف حقاً.
ثمرات الخوف من الله
أ- في الدنيا ..
1- من أسباب التمكين في الأرض، وزيادة الإيمان والطمأنينة لأنك إذا حصل لك الموعود وثقت أكثر ، قال عز وجل : (( وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكنكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد)) ، إذاً الخوف من الله يؤدي إلى التمكين في الأرض والانتصار على الأعداء وأن يهلك الله عدوهم ويخزيهم ويورث المؤمنين أرضهم وديارهم.
2- يبعث على العمل الصالح والإخلاص فيه وعدم طلب المقابل في الدنيا فلا ينقص الأجر في الآخرة (( إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً* إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً))، (( في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال*رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار)) ، أي تضطرب وتتقلب وهذا هو الذي دفعهم للعمل ، يريدون النجاة ويحذرون الهلاك ويخافون أن يأتوا وكتبهم بشمالهم.
ب - في الآخرة..
1- يجعل الإنسان في ظل العرش يوم القيامة، (( ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله))، ظاهر الحديث أنه يقولها بلسانه ليزجر المرأة عن فعلها وليذكر نفسه ويصر على موقفه ولا يتراجع بعد إعلان المبادئ، ((ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه))، الخشية الموجبة لدمع العين تؤدي إلى أن النار لا تمس العين يوم القيامة.
2- من أسباب المغفرة، شاهد ذلك الحديث: رجل كان فيمن قبلنا عنده جهل عظيم ورزقه الله مالاً فقال لبنيه لما حضره الموت: أي أب كنت لكم؟قالوا: خير أب ، قال: فإني لم أعمل خيراً قط فإذا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في يوم عاصف ، ففعلوا وما أسهل أن يعيده الله كما كان، قال : ما حملك؟ قال: مخافتك، فتلقاه برحمته..!!، فعذره الله بجهله وشفع له خوفه من ربه وإلا فالذي ينكر البعث كافر.
3- يؤدي إلى الجنة لأن النبي صلى الله عليه وسلم : ((من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة)) أي الذي يخاف من إغارة العدو وقت السحر يسير من أول الليل(أدلج) فبلغ المنزل والمأمن والمطلب، وهذا مثل ضربه الرسول صلى الله عليه وسلم لسالك الآخرة فإن الشيطان على طريقه والنفس الأمارة بالسوء والأماني الكاذبة وأعوان إبليس ، فإن تيقظ في مسيره وأخلص النية في عمله أمن من الشيطان وكيده ومن قطع الطريق عليه، هذه سلعة الله التي من دخلها كان من الآمنين.
4- يرفع الخوف عن الخائف يوم القيامة: (( وعزتي وجلالي، وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين، إذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة، وإذا أمنني في الدنيا أخفته في الآخرة)).
5- سبب للنجاة من كل سوء، (( ثلاث منجيات: خشية الله تعالى في السر والعلانية)) فهذه الخشية هي التي تحفظ العبد وتنجيه من كل سوء لأنه قال ووعد الله لا يخلف وهذا رسوله (منجيات) وعمّم تشمل الدنيا والآخرة.
6- يصبح الإنسان ممدوحاً مثني عليه ويكفيه فخراً أن يدخل في أصحاب الأسماء والألقاب الشريفة (( المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والصائمين والصائمات والقانتين والقانتات والذاكرين والذاكرات والحافظين فروجهم والحافظات)) ألفاظ شريفة كانوا يسعون لحيازتها (( تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون)).
وفينا رسول الله يتلو كتابه
إذا انشق معروف من الصبح ساطع
أرانا الهدى بعد العمى
فقلوبنا بخ موقنات أنه ماقال واقع
يبيت يجافى جنبه عن فراشه
إذا استتقلت بالمشركين المضاجع
عبد الله ين رواحة
((أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه)).
((والذين هم من عذاب ربهم مشفقون إن عذاب ربهم غير مأمون)).
وأثنى الله على أقرب عبادة وهم الأنبياء لخوفهم منه (( إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً)).
بل الملائكة (( يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون)).
قال ابن القيم: من ثمرات الخوف أن يقمع الشهوات ويكدّر اللذات فتصير المعاصي المحبوبة عنده مكروهة مكدرة.
وليس المقصود تكدير اللذائذ المباحة ، الرسول صلى الله عليه وسلم استمتع وهو سيد الخائفين على قدر (( حبب إليه من الدنيا الطيب والنساء)).
تكدر اللذات المحرمة بتذكر عذاب الله و وعيده لمن وقع فيها فتتكدر لذته المحرمة بتذكر مابها من عذاب.
قال ابن القيم –رحمه الله- : كما يصير العسل مكروهاً عند من يشتهيه إذا علم أن فيه سمّاً ، فتحترق الشهوات بالخوف وتتأدب الجوارح و يذل القلب ويستكين ويفارقه الكبر والحقد والحسد ويصير مستوعب الهم لخوفه والنظر في خطر عاقبته فلا يتفرغ لغيرع ولا يكون له شغل إلا المراقبة والمحاسبة والمجاهدة والظنّة(البخل) بالأنفاس واللحظات ومؤاخذة النفس في الخطرات والخطوات والكلمات ويكون حاله (الخائف) كم وقع في مخالب سبع ضار لا يدري أيغفل عنه فيفلت أو يهجم عليه فيهلكه ولا شغل له إلا ما وقع فيه ، فقوة المراقبة والمحاسبة بحسب قوة الخوف وقوة المعرفة بجلال الله تعالى وصفاته وبعيوب نفسه وما بين يديها من الأخطار والأهوال.
وقال ابن قدامة: فضيلة كل شيء بقدر إعانته على طلب السعادة وهي لقاء الله تعالى والقرب منه، فكل ما أعان على ذلك فهو فضيلة ((ولمن خاف مقام ربه جنتان)).
7- الرضا من الله ((رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه)).

الأسباب الجالبة للخوف
الخوف ليس مقصوداً لذاته بل لما بعده من فعل الواجبات وعدم تركها والبعد عن المحرمات وعدم ارتكابها وإذا زاد يمكن أن يكون فعل مستحبات وترك مشتبهات وإذا زاد أكثر يصبح مذموماً وإذا نقص عن هذا يكون أيضاً ناقصاً لا يؤدي إلى النتيجة المطلوبة، فمن الأسباب الجالبة للخوف:
1- سابق الذَّنب الذي وقع فيه.
2- حذر التقصير في الواجبات.
3- الخوف من المصير أن يكون على ما يكره.
4- إجلال الله و تعظيمه(( يخافون ربهم من فوقهم)). والملائكة خوفهم من الله شديد جداً (( حتى إذا فزّع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق)) فالله إذا تكلم بالكلمة في السماء من أوامره ضربت الملائكة بأجنحتها خضوعاً لقوله، فأصدرت صوتاً عظيماً كجرّ السلسلة العظيمة على الصخرة ثم يغشاهم من الفزع ما يغشاهم ورجعوا إلى حالة يستطيعون فيها الكلام قالوا ماذا قال ربكم تناقلت الأوامر قالوا الحق، فإذاً إجلال الله يقتضي الخوف والهيبة منه جل وعلا وهذه أهمية معرفة أسماء الله وصفاته.
5- الخوف من الله يتعلق بقضيتين..
أ – الخوف من عذابه..
ب – الخوف من الله..
الناس العامة ينزعون إلى الخوف من النار أكثر ، وأهل الفقه والعلم خوفهم من الله قبل خوفهم من ناره لأن العامة قد يكون فهمهم وعلمهم قليل وبساطة فأحياناً لا يتذكر من كل القضية إلا النار، وقد لا يستوعب أن الخوف من الله قبل الخوف من ناره أول وأكبر وأعظم ولذلك قال ابن قدامة رحمه الله: (( في مقامي الخوف المقام الأول الخوف من عذاب الله وهذا خوف عامة الناس وهذا النوع من الخوف يحصل بالإيمان بالجنة والنار وكونهما جزاءين على الطاعة والمعصية ، المقام الثاني الخوف من الله نفسه عزوجل وهو خوف العلماء والعارفين لأنه يكفيهم فقط ثلاث كلمات (( ويحذركم الله نفسه))، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( أنا أعرفهم بالله وأشدهم له خشية))، وقال الله تعالى: (( إنما يخشى الله من عباده العلماء)) لأنه لما كملت معرفتهم بربهم وأسمائه وصفاته أثرت الخوف ففاض الأثر على القلب ثم ظهر على الجوارح بهذه الأعمال.
6- تتأمل النجاة لمن ، وتقارن نفسك بصفاتهم (( وإني لغفّار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى)). و كما في سورة العصر حيث أقسم الله أن الناس في خسران واستثنى (( الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)). وكما في قوله تعالى: (( ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنّة والناس أجمعين)). هذه الآية تورث الخوف حيث أقسم الله أنه ليملأ جهنم فينخلع القلب والله تعالى يقول: (( وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً)) وقيل لفلان لم تبكي؟ قال لأني أعلم يقيناً أنني سآتي على جهنم ولكن ليس لدي يقين أنني سأنجو منها..!!، وفي مسألة قبول العمل أيضاً والله تعالى يقول : (( إنما يتقبل الله من المتقين)). فإذا حصل الخوف حصلت أسباب النجاة.
7- تدبر كلام الله ورسوله والنظر في سيرته ، قال ابن القيم : (( لأنه سيد الخائفين وإمام المتقين وأخشاهم لله فإذا تدبر المسلم كلام الله وسنة نبيه شهد قلبه أموراً من صفات الله وعقوباته وانتقامه و كيف خاف الأنبياء والملائكة والصالحون، وليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده وأقرب إلى نجاته من تدبر القرآن وإطالة التأمل وجمع الفكر على معاني آيات الكتاب العزيز فلا تزال معانيه تنهض العبد إلى ربه بالوعد الجميل وتحذره وتخوفه بوعيده من العذاب الوبيل وتحثه على التضمرّ والتخفف للقاء اليوم الثقيل)). يقول ابن الجوزي: (( والله لو أن مؤمناً عاقلاً قرأ سورة الحديد وآخر سورة الحشر وآية الطرسي وسورة الإخلاص بتفكر وتدبر لتصدّع قلبه من خشية الله وتحيّر من عظمة الله ربّه)).
8- التفكر في عظمة الله سبحانه وتعالى، فإنه من تفكر في ذلك خاف الله لا محالة لأن التفكر يوقعه على صفات الله جل جلاله وكبريائه ومن شهد قلبه عظمة الله وكبرياءه علم شأن تحذيره عندما قال: (( ويحذركم الله نفسه)) أي خافوه واخشوه بما أبدى لكم من صفاته وأسمائه وعدله عز وجل ، قال تعالى : (( وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه )) يمجد الرب نفسه، أنا الجبار الملك، أنا المتكبر العزيز الكريم..، قالها صلى الله عليه وسلم فرجف به المنبر حتى قال الصحابة ليخرنّ به ، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر يقول (( يأخذ الجبار سماواته وأرضه بيده و قبض يده فجعل يقبضها و يبسطها ثم يقول أنا الجبار أين الجبارون أين المتكبرون)) ويتمايل الرسول صلى الله عليه وسلم عن يمينه وشماله حتى نظر صحابي إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه حتى قال أساقط هو برسول الله؟!! . ما السموات السبع في الكرسي إلا كلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة فإذا عرف الإنسان عظمة الرب جلب له ذلك الخوف منه.
9- التفكر في الموت وشدته وأنه لا مفر منه (( قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم)) ، فهذا يوجب الخوف من الله ((أكثروا من ذكر هادم اللذات، الموت، فإنه لم يذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه ولا ذكره في سعة إلا ضيقها عليه)).
قال أبو العتاهية:
ألا رب ذي أجل قد حضر
كثير التمني قليل الحذر
إذا هزّ في المشي أعطافه
تعرفت من منكبيه البطر
يؤمِّل أكثر من عمره
ويزداد يوماً بيومٍ أشر
10 – التفكر فيما بعد الموت، في القبر وأهواله، قال صلى الله عليه وسلم : (( كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنه يرقّ القلب وتدمع العين تذكر الآخرة ولا تقول هجرة)).
عن البراء يقول كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فجلس على شفير القبر فبكى بلّ الثرى وقال : يا أخواني لمثل هذا فأعدّوا...
11- إذا قدم إلى القيامة وأهوالها وحديث البعث والنشور إلى ذبح الموت, (( يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور)). لفت النظر يقوي مراقبة العبد ربه.
12- إذا دخل أهل النار النار..، ماذا يوجد فيها من الأهوال في شدة عذابها؟!!..، ((إنها لإحدى الكبر)). قال الحسن: كبرت منذرة داهية عظيمة أعظم الدواهي ما أنذرت الخلائق بشيء قط أفظع منها.
وكيف قرت لأهل العلم أعينهم
أو استلذوا لذيذ النوم أو هجعوا
والموت ينذرهم جهراً علانية
لو كان للقوم أسماع لقد سمعوا
أفي الجنان وفوز لا انقطاع له
أم الجحيم فلا تبقي ولا تدع
لينفع العلم قبل الموت عالمه
قد سأل قوم بها الرجعى فما رجعوا
13- تفكر العبد في ذنوبه وأنه نسيه والله تعالى أحصاها ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاه، وأن الله يمكن أن يعطيه النعم استدراجاً (( ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلباً)) ، في قصة صاحب الجنتين حين قال (( ما أظن الساعة قائمة)).
14- التفكر في عاقبة محقرات الذنوب التي يحقرها الناس ، وقد مثلها النبي صلى الله عليه وسلم بقوم نزلوا بطن واد فجاء هذا بعود وهذا بعود حتى جمعوا ما أنضجوا به خبزهم ، وهناك ارتباط بين الأعواد وإيقاد النار وبين الذنوب وما تسبب من نضج جلود العصاة(( كلما نضجت جلودهم)).
15- أن يعلم العبد أنه قد يحال بينه وبين التوبة بموت مفاجيء ، تسويف، شبهات ، إصرار على المعصية والشهوات، فتنة مضلّة، والحسرة حينها لا تنفع (( حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت)) (( وأنذرهم يوم الحسرة)).
16- التفكر في سوء الخاتمة حينئذ (( والملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم))، وملك الموت كيف يسحب روح الفاجر فيتقطع فيها كل عرق و عصب وكيف يجعل في كفه من النار وحنوط له من جهنم..
17- تجالس ناس يكسبونك خشية وخوف من الله من الصالحين والعلماء المتقين (( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه))، صاحب أصحاب الخشية، رقة قلب إذا سمعوا الذكر وتلين قلوبهم ((ثم تلين قلوبهم وجلودهم إلى ذكر الله)). واقرأ سيرهم فاصحب أنفاسهم..
أهل الحديث هم أهل الرســـــول
وإن لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا
اصحب سير الخائفين من الله ..
- الإمام أحمد و خشيته..
- ابن عباس رضي الله عنه كان تحت عينيه خطّان كالشراكان الباليان أخاديد من الدموع.
- عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ آيات فمرض مرض عاده الناس من بعده.
- عائشة تقرأ قوله تعالى : (( فمنّ الله علينا فوقانا عذاب السموم)) في صلاتها فتبكي وتبكي..((إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم)).
- أبو بكر رضي الله عنه يمسك لسانه ويقول (( هذا الذي أوردني المهالك))، (( يا ليتني كنت شجرة تؤكل)).
- عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (( ياليتني كنت هذه التبنة))((يا ليتني لم أكن شيئاً مذكوراً))(( ياليت أمي لم تلدني )) (( لو مات جمل ضياعاً على جانب الفرات لخشيت أن يسألني عنه الله يوم القيامة)).
- ويقول: (( لو نادى منادٍ من السماء يا أيها الناس إنكم داخلون الجنة كلكم إلا واحداً لخفت أن أكون أنا هو))..!!
- عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول : (( وددت لو أنني لو مت لم أبعث)) وهو الذي كان يقطع الليل تسبيحاً وقرآناً ويتخرق مصحفه من كثر ما قرأ به ، ومات ودمه على المصحف شهيداً..
- أبو عبيدة رضي الله عنه يقول: (( وددت لو كنت كبشاً فذبحني أهلي وأكلوا لحمي وحسوا مرقي)).
- عمران بن حصين رضي الله عنه يقول: (( يا ليتني كنت رماداً تذروه الرياح)).
- حذيفة رضي الله عنه يقول (( وددت أن لي إنسان يكون في مالي ذم أغلق علي بابي فلا يدخل علي أحد حتى ألحق بالله)).
- عائشة رضي الله عنها تقول: (( يا ليتني كنت نسياً منسياً)).
- أبو هريرة رضي الله عنه يغشى عليه ثلاث مرات وهو يحدث بحديث أول ثلاث تسعّر بهم النار ..
- علي رضي الله عنه يقول: (( لقد رأيت أصحاب محمد فما أرى اليوم شيئاً يشبههم لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً بين أعينهم أمثال ركب المعزى قد باتوا لله سجداً وقياماً – أثر في الجلد فخشنه مثل ركب المعزى- يتلون كتاب ربهم يراوحون بين جباههم وجنوبهم فإذا أصبحوا ذكروا الله عزوجل مادوا كما يميد الشجر في يوم الريح وهملت أعينهم حتى تبل ثيابهم والله لكأن القوم باتوا غافلين..
- عمر بن عبد العزيز يبكي ويبكي حتى تغلبه عيناه ثم ينام ..تسأله زوجته فيقول ((إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم )) فتبكي فاطمة وتقول : (( اللهم أعذه من النار)).
- حديث حسن : (( أولياء الله الذين إذا رُؤوا ذُكِر الله عزوجل)).
18- سماع المواعظ وبعض الخطب.
19- العلم بالله وأسمائه وصفاته وكلامه وكلام رسوله.
20- الدعاء.
وذلك مقصود في دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم يسأل الله أن يرزقه الخشية(( ربي أعني ولا تعن علي وانصرني ولا تنصر علي وامكر لي ولا تمكر علي واجعلني لك شكاراً لك ذكاراً لك رهّاباً لك مطواعاً لك مخبتاً إليك أواهاً منيباً، ربي تقبل توبتي واغسل حوبتي وأجب دعوتي وثبت حجتي وسدد لساني واهدِ قلبي واسلل سخيمة صدري)) ..
ويدعو بقوله : (( اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك)).
(( اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة)).
موانع الخوف
الخوف تمنعه أشياء منها المعاصي، الدنيا، الرفقة السيئة، الغفلة وتبلّد الإحساس..
الخوف القاصر نوع خطير من الخوف ، وهو أن يحضر موعظة ويسمع ويتأثر ثم يمشي..
هذا خوف لا يكفي وإنما العبرة بما وقع نفع و دخل واستقر..
المطلوب الخوف المستمر..
قال أحد الصحابة: (( وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بعد صلاة الغداة موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقال رجل إنها موعظة مودّع ماذا تعهد إلينا؟ فأعطاهم صلى الله عليه وسلم الوصية)).. انظر إليهم .. يريدون التطبيق..
والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (( لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً وخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله.. سلوني.. سلوني..)) فغطّى الصحابة وجوههم يبكون..!!
جاء حذافة وقد كان ينسب لغير أبيه فقال من أبي قال حذافة : فصار إثبات نسبه بالوحي، حتى جاء عمر فقال: رضينا بالله ربا وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً عائذاً بالله من سوء الفتن..
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : لم أرك اليوم قط في الخير والشر، إني صورت لي الجنة والنار رأيتهما دون هذا الحائط..
قال صلى الله عليه وسلم : (( أطّت السماء وحق لها أن تأطّ ما فيها موضع إلا وفيها ملك قائم أو قاعد أو ساجد))..
فالخوف إذا باشر قلب العبد فاض أثره على الجوارح وظهر، وليس أنه كان شيئاً سريعاً وذهب..
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها
إن السفينة لا تجري على اليبس
قال صلى الله عليه وسلم : (( ما رأيت مثل النار نام هاربها))..
قال ابن تيمية –رحمه الله - : (( كل عاصٍ لله فهو جاهل وكل خائف منه فهو عالم مطيع))، الخائف من الله يبادر إلى الخيرات قبل الممات ويغتنم الأيام والساعات..
ويتكلم عن حال السلف ابن المبارك –رحمه الله-:
إذا ما الليل أظلم كابدوه
فيسفر عنهم وهم ركوع
أطار الخوف نومهم فقاموا
وأهل النوم في الدنيا هجوع
لهم تحت الظلام وهم سجود
أنين منه تنفرج الضلوع
وخرسٌ بالنهار لطول صمت
عليهم من سكينتهم خشوع