السبت، 5 يوليو 2008

شكر النعم

-الشكر
الشكر خير عيش السعداء لم يترقوا إلى أعلى المنازل إلا بشكرهم ، ولمّا كان الإيمان صفين ، نصفٌ شكر ونصفٌ صبر ، كان حقيقاً على من نصح نفسه وآثر نجاتها وسعادتها.
تعريف الشكر
الشكر لغةً: الاعتراف بالإحسان، شكرت الله- شكرت نعمة الله . فالشكر في اللغة هو ظهور أثر الغذاء في جسم الحيوان، والشكور من الدواب ما يكفيه العلف القليل أو الذي يسمن على العلف القليل. والشكر خلاف الكفر.
اشتكرت السماء أي اشتد وقع مطرها. واشتكر الضرع أي امتلأ لبناً .
والشكر الزيادة والنماء.
والشكر في الاصطلاح: ظهور أثر النعم الإلهية على العبد في قلبه إيماناً وفي لسانه حمداً وثناءً وفي جوارحه عبادة وطاعة ويكون القليل من النعمة مستوحياً الكثير من الشكر فكيف إذا كانت النعم كثيرة؟، ومن العباد من هو شاكر ومنهم من هو كافر.
شكرت له، يتعدى باللام ، وكفرت به ؛ يتعدى بالباء!، ولابن القيم نكتة طرفة في هذا فيقول:
[المشكور في الحقيقة هي النعمة وهي مضافة إلى المنعم لذلك تقول شكرت له فيتعدى باللام ، أما الكفر ففيه تكذيب وجحد بالنعمة لذلك قالوا كفر بالله وكفر بنعمته وكفر بآلائه فلذلك تعدى بالباء].
هذا الشكر له مقامات عظيمة في الدين:
1- قرن الله ذكره بشكره وكلاهما المراد بالخلق والأمر والصبر خادم لهما ووسيلة إليهما وعوناً عليهما، فقد قرن الله الشكر بالذكر فقال: ((فاذكروني أذكركم واشكروني ولا تكفرون)).
2- قرن الشكر بالإيمان ، وأنه لا غرض له في عذاب الخلق إذا قالوا آمنا (( ماذا يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم))، أي وفيتم حقه وما خلقتم من أجله وهو الشكر بالإيمان.
3- أهل الشكر هم المخصوصين بمنته عليهم من بين عباده فقال تعالى: (( وكذلك فتنّا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء الذين منّ الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين)).
4- قسم الناس إلى شكور وكفور فأبغض الأشياء إليه الكفر وأهل الكفر وأحب الأشياء إليه الشكر وأهل الشكر (( إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً)).
5- يبتلي عباده ليستخرج الشكور فقال تعالى على لسان سليمان عليه السلام : ((هذا من فضل ربي يبلوني أءشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم)).
6- وعد الشاكرين بالزيادة (( وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد)).
7- الله يرضى عمل الشاكرين ويرضى الشكر (( إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم)). فيقارن الله بين الشكر والكفر وأنهما ضدّان (( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفئن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين)). والشاكرون في هذه الآيات الذين ثبتوا على نعمة الإيمان ولم ينقلبوا على أعقابهم. فمن الناس من لا يصمد عند الابتلاء والمحنة فيكفر ولا يثبت، ومنهم من يظهر لربه حقيقة ما في قلبه عند المحنة والابتلاء ، فيتعالى لسانه بذكر ربه وحمده فيثبت ويشكر شكراً عملياً بالقلب واللسان والجوارح.
8- علّق الله المزيد بالشكر والمزيد من لا نهاية له، كما أن الشكر لا نهاية له، ووقف الله الكثير من الجزاء على المشيئة..
- (( فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء)).
- في الإجابة (( فيكشف ما تدعون إليه إن شاء)).
- في المغفرة ((يغفر لمن يشاء)).
- في الرزق (( يرزق من يشاء)).
- في التوبة ((ويتوب الله على من يشاء)).
أما الشكر فإنه أطلقه (( وسنجزي الشاكرين))،((وسيجزي الله الشاكرين) ولم يقل ((إن شاء))!!
9- أخبر سبحانه وتعالى أن إبليس من مقاصده أن يمنع العباد من الشكر، فتعهد إبليس بأشياء (( ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين)) فإبليس يريد حرمانهم من الشكر والقعود بينهم وبينه.
10- وصف الله الشاكرين بأنهم قليل من عباده (( وقليل من عبادي الشكور))، وذكر الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع رجلاً يقول: [اللهم اجعلني من الأقلين] فقال ما هذا؟ قال: [ يا أمير المؤمنين : الله تعالى يقول ((وما آمن معه إلا قليل)) ويقول (( وقليل من عبادي الشكور)) ويقول ((إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم))] قال عمر: صدقت..!!، وإذا كان الشكر من صفات الأنبياء والمؤمنين فإنه ليس كذلك عند كل الناس فإن كثيراً منهم يتمتعون بالنعم ولا يشكرونها.
11- أثنى الله على أول رسول بعثه إلى أهل الأرض بالشكر وهو نوح عليه السلام (( ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبداً شكوراً)) إشارة إلى الاقتداء به.
12- أخبر الله أنه يعبده من شكره وأن من لم يشكره فإنه ليس من أهل عبادته : (( واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون)).
13- أمر سبحانه وتعالى عبده موسى أن يتلقى ما آتاه من النبوة والرسالة والتكليف بالشكر (( يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين)).
14- أول وصية أوصى بها الإنسان بعدما عقل أن يشكر له ثم لوالديه (( ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير)).
15- أخبر الله أن رضاه في شكره (( إن تشكروا يرضه لكم)).
16- أخبر عن خليله إبراهيم بشكر نعمته (( إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يكن من المشركين شاكراً لأنعمي اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم)). فمن صفات الأمة القدوة الذي يؤتم به بالخير يعدل مثاقيل من أهل الأرض أنه كان قانتاً لله شاكراً لأنعمه فجعل الشكر غاية خليله.
17- الشكر هو الغاية من الخلق(( والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون)). فهذه غاية الخلق، أما غاية الأمر (( ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون))فكما قضى الله لهم بالنصر فليشكروا هذه النعمة.
والخلاصة أن الشكر غاية الخلق وغاية الأمر فخلق ليشكر وأمر ليشكر (( فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون))، والشكر مراد لنفسه والصبر مراد لغيره، أنت تصبر لأجل أن يحدث ما يترتب عليه وما يؤدي إليه من الأشياء، والشكر غاية في نفسه والصبر وسيلة إلى غيره وإلى ما يحمد وليس مقصوداً لنفسه.
وفي منازل (( إياك نعبد وإياك نستعين )) ذكر ابن القيم في الشكر أيضاً سبعة عشر وجهاً وهي:
1- أنه من أعلى المنازل.
2- فوق منزلة الرضا والزيادة، فالرضا مندرج في الشكر ويستحيل وجود الشكر بدونه.
3- نصف الإيمان شكر ونصفه صبر.
4- أمر الله به ونهى عن ضده.
5- أثنى على أهله ووصفهم بخواص خلقه.
6- جعله غاية خلقه وأمره.
7- وعد أهله بأحسن الجزاء.
8- جعله سبباً للمزيد من فضله.
9- حارساً وحافظاً للنعمة.
10- أهل الشكر هم المنتفعون بآياته.
11- اشتق لهم اسماً من أسمائه (الشكور) وهو يوصل الشاكر إلى مشكوره بل يعيد الشاكر مشكوراً.
12- غاية الرب من عبده.
13- سمى نفسه شاكراً وشكوراً ، وسمى الشاكرين بهذا الاسم فأعطاهم من وصفه وسماهم باسمه وحسبك بهذا محبة للشاكرين وفضلاً.
14- أخبر الله عن قلة الشاكرين في عباده.
15- الشكر لابد معه من مزيد.
الشكر عكوف القلب على محبة المنعم، والجوارح على طاعته وجريان اللسان بذكره والثناء عليه.
والشكر يتعلق بأمور ثلاث : القلب واللسان والجوارح، ومعنى الشكر ينطوي على معرفة ثلاثة أمور وهي معاني الشكر الثلاثة.
1- معرفة النعمة: استحضارها في الذهن وتمييزها والتيقن منها، فإذا عرف النعمة توصل إلى معرفتها بمعرفة المنعم بها ولو على وجه التفصيل، وهذا ما نجده في القرآن الكريم ليستحضر العبد هذه النعم فيشكر. وإذا عرف النعمة سيبحث العقل عن المنعم فإذا عرف المنعم أحبّه فإذا أحبه جد في طلبه وشكره ومن هنا تحصل العبادة لأنها طريق شكر المنعم وهو الله.
2- قبول النعمة: تلقيها بإظهار الفقر إلى المنعم والحاجة إليه وأن وصول النعم تمّ بغير استحقاق ، فالله أعطانا النعم منّة وتفضّل .
3- الثناء بها: الثناء على المنعم المتعلق بالنعمة نوعان :
عام  وهو أن تصفه بالجود والكرم والبر والإحسان وسعة العطاء ونحو ذلك.
خاص أن تتحدث بنعمه عليك وتخبر بوصولها إليك (( وأما بنعمة ربك فحدث)).
والتحديث المأمور به هنا فيه قولان:
1- أن تذكر وتعدد ( أنعم الله علي بكذا وكذا...) ولذلك قال بعض المفسرين اشكر ما ذكره من النعم عليك في هذه السورة من جبرك يتيماً وهدايتك بعد الضلال وإغنائك بعد العيلة.
2- أن تستعملها في طاعته.
فالتحدث بالنعمة من الثناء على الله، فتثني على الله بالأسماء المناسبة لمقام الشكر(المنان-الكريم-ذو الفضل العظيم – الله واسع – عطاؤه كثير).
حديث جابر مرفوعاً: [ من صنع إليه معروفاً فليجزِ به فإن لم يجد ما يجزي به فليثني فإنه إذا أثنى عليه فقد شكره وإن كتمه فقد كفره ومن تحلّى بما لم يُعطَ كان كلابس ثوبي زور).
ومن الثناء كقول جزاك الله خير، و الدعاء أيضاً وسيلة للشكر.
أقسام الخلق في شكر النعمة ثلاثة:
1- شاكر للنعمة مثني بها.
2- جاحد لها كاتم لها.
3- مظهر أنه من أهلها وهو ليس من أهلها ، وكما في الحديث فالمتشبع بما لم يعطَ كلابس ثوبي زور.
وقد روى النعمان بن بشير: [ من لم يشكر القليل؛ لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس؛ لم يشكر الله]. والتحدث بنعمة الله شكر وتركها كفر والجماعة رحمة والفرقة عذاب [ رواه أحمد].
والتحدث بالنعمة المأمور به ينبغي أن يكون ذلك في النفس وعند الآخرين ولكن إذا كان عند حاسديها فإن كتم ذكرها ليس من كفرها فهو لم يكتم ذكر النعمة شحاً بذلك وتقصيراً في حق الله لكن لدرء مفسدة وهي حسد صاحب العين وكيده وضرره ودفع الضرر من المقاصد الشرعية.
أما مقابلة النعمة فلايمكن في حق الله (( لن ينال الله لحومها ولا دماءها)) ، فلا سبيل إلى المجازاة ويبقى في قضية الثناء عليه استعمالها فيما يرضيه ، أما المجازاة فلا سبيل إليها ولا ينتفع الله بخلقه شيء.
و واجبنا نحو الله في النعم :
1- الخضوع له، خضوع الشاكر للمشكور.
2- حبه له، حب الشاكر للمشكور.
3- اعترافه بنعمته عليه( الإقرار).
4- الثناء عليه بها.
5- أن لا يستعملها فيما يكره بل يستعملها فيما يرضيه .
وإذا كانت النعم تتفاضل فهل يتفاضل الشكر؟ نعم.
والشكر لله يكون بالقلب واللسان والجوارح.
الشكر بالقلب
علم القلب وذلك بأن يعلم أن الله هو المنعم بكل النعم التي يتقلب فيها [الناس يشكرون المعبر ولا يشكرون المصدر!!]، وهذا مهم في تربية الأطفال، أن يُعرَّف من أين جاءت النعم((يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون))!!
أول نعمة ؛ نعمة الخلق والإيجاد، ورصد النعم والتعرف إليها مرحلة تمهيدية للشكر، وجاءت كثير من الآيات بإحصاء النعم ليكتشف الإنسان كثرتها فيعلم أن النعم لا يمكن حصرها (( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها)).
ولكن ذُكِر لنا أشياء فرعية وأصلية ، والفروع نردها إلى أصولها ، كالصحة فهي نعمة أصلية وما يتفرع منها من النعم ( الحركة- المشي-العمل – الرياضة-النوم- الأكل – الشرب - السفر)، كذلك المال والوقت والعلم كلها نعم أصلية.
وتستطيع أن تضم النعم إلى ما يحاذيها ويشابهها، أنعم علينا بوصفنا مخلوقات بعد الخلق والإيجاد ثم نعمة الآدمية والإنسانية وأنعم علينا بوصفنا مسلمين من نعمة الهداية والإيمان. ونعمة التربية التي ترتقي بالفرد درجة بعد درجة وتعلم علماً بعد علم حتى يبلغ كماله، وفوق كل ذلك نعمة النبوة للذين اصطفاهم الله ، والصديقين والشهداء و الصالحين.
إن عرض النعم على العامة أمر مهم جداً وهو قضية في الدعوة، فالله عزوجل خص الآدمي أنه خلقه بيده (( لما خلقت بيدي)).
(( ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم وسخر لكم الأنهار وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار)).
وذكر في سورة النحل(سورة النعم): (( وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون* وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهاراً وسبلاً لعلكم تهتدون * وعلامات وبالنجم هم يهتدون * أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون* و إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم)) .
(( والله جعل لكم مما خلق ظلالاً وجعل لكم من الجبال أكناناً وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون)).
هذه المنة للإيمان بعد الإسلام أو الإسلام اولاً (( يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين)).
(( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً)).
ومن نعمة الهداية يكون الأمن والسكينة والفرج والمغفرة والرحمة والبركة والتيسير وسعة الرزق.
ومن مقاصد ووسائل الدعوة أنك تحدث المدعوين بنعم الله عليهم ليحصل الشكر (( إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون)). فبعض الناس اتجهوا إلى أشياء غريبة في تفسير النعم أو نسبتها إلى مصادر باطلة ليست هي، مثل الذي فعله قارون لما ذكر بنعمة الله عليه فقال (( إنما أوتيته على علم عندي))، فالغرور يجعلهم ينسبون النعمة إلى غير المنعم، وهذا فعل الأشقياء فالله تعالى يقول: (( وما بكم من نعمة فمن الله))((فلينظر الإنسان مما خلق))((فلينظر الإنسان إلى طعامه))((أءنتم أنزلتموه من المزن)) (( وما أنتم له بخازنين)) (( أفرءيتم الماء الذي تشربون*أءنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون * لو نشاء لجعلناه أجاجاً فلولا تشكرون)).
الشكر باللسان
لسان المرء يعرب عما في قلبه ، فإذا امتلأ القلب بشكر الله لهج اللسان بحمده والثناء عليه، وتأمل ما في أذكار النبي صلى الله عليه وسلم من الحمد والشكر لرب العالمين..
1- كان لما يفيق من نومه يقول :[الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور]، [الحمد لله الذي عافاني في جسدي ورد علي روحي وأذن لي بذكره].
2- وإذا أوى إلى فراشه لينام يقول: [الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وآوانا فكم ممن لا كافي له وملا مؤوي].
3- ومن أذكار الصباح والمساء[ اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد والشكر] من قالها حين يصبح فقد أدى شكر ليله.
4- سيد الاستغفار[أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي] اعتراف بالنعمة واعتراف بالتقصير في شكرها لأنه يذنب.
5- يفتتح الأدعية بحمد الله والثناء عليه بما هو أهله.
6- في كل خطبة أو نكاح أو أمر ذي بال يحمد الله.
7- دعاء الاستفتاح – سورة الفاتحة – الرفع من الركوع – أذكار ما بعد السلام – ربنا ولك الحمد – أدعية التهجد – اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن – الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
8- إذا أكل أو شرب أو سئل عن حال أو سافر أو عطس.
9- في أي ساعة يحمد ربه من ليل ونهار ، له في كل تحميدة صدقة.
وقعت يد عائشة على يد النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد في بطن الليل وقدماه منصوبتان يقول: [ اللهم إني أعوذ برضاك من
سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك].
قال صلى الله عليه وسلم : [ يا معاذ إني أحبك فلا تدع أن تقول دبر كل صلاة اللهم أعنّي على ذكرك و شكرك و حسن عبادتك].
الشكر بالجوارح
وهي ما سوى القلب واللسان من جوارح، فما من عمل يعمله ابن آدم من الطاعات والعبادات إلا وهو شاكر فيه لنعم ربه سبحانه وتعالى.
والخلاصة في الشكر بالجوارح ؛ العمل الصالح، فعند بلوغ الأربعين (( حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه))، فسأل الله العمل الصالح عقب سؤاله التوفيق على شكر نعمته يعني أن الشكر باللسان وحده لا يكفي.
ومن وسائل الشكر بالجوارح حديث (( كل ابن آدم يصبح وعلى كل سلام ومفصل صدقة)) فكيف يؤدي شكر 360 مفصل؟، كل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، وإماطة الأذى عن الطريق صدقة، وعدد المفاصل 360 إذا شكرها المرء [أمسى يومه وقد زحزح عن النار].
والصدقات كثيرة جمعها ابن رجب في شرحه الأربعين النووية[الصدقات البدنية- المالية-الخبرة من تعليم صنعة أو تصنع لأخرق- التفهيم – التعليم – الوقت – الجاه...]، فذو القرنين مثلاً علم شعباً جاهلاً صناعة السدود حتى تقيهم شر أعدائهم.
المقصود أن المسلم عليه أن يشكر ربه بجوارحه بسائر أنواع الصدقات وكل معروف صدقة ولا يغني شكر يوم عن يوم آخر.
وليس هناك تعارض بين شكر الله وشكر الناس، لأن الله أمر بشكر الناس ، وهو سبحانه الذي أرشدنا إلى شكر الناس إذا صنعوا لنا معروفاً أن نكافئهم وأولهم الوالدين (( اشكر لي ولوالديك)) (( لا يشكر الله من لا يشكر الناس))، فليس شكر المخلوق قادحاً في شكر الخالق بل المشكلة فيمن يشكر المخلوق ولا يشكر الخالق وهذه هي المصيبة، وهناك فرق بين شكر العبد وشكر الرب، فشكر الرب فيه خضوع وذل وعبودية ولا يجوز لشكر العبد أن تعبده وإنما تعطيه شيء مقابل شيء، وتدعو له وتثني عليه ..
شكر الله أيضاً يختلف عن شكر الناس من جهة العبودية والدرجة ومافيه من أنواع الطاعات له سبحانه وتعالى..
والإنسان الذي لا يشكر الناس إنسان لئيم وحريٌ به أن لا يشكر الله..
والنعم تزيد بالشكر وتحفظ من الزوال بالشكر((لئن شكرتم لأزيدنكم)) (( ولا تتمنوا مافضل الله بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله)).
من الأشياء التي تؤدي إلى الشكر:
1- أنك تنظر إلى من هو دونك، قال صلى الله عليه وسلم : [انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فإنه أجدر ألا تزدروا نعمة الله ]. فمما يحفظ العبد من ترك الشكر عندما ينظر إلى من هو فوقه أن هذه قسمة الله (( وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما أتاكم)).
2- أن يعلم العبد أنه مسئول عن النعمة (( ثم لتُسألن يومئذ عن النعيم)) ومحاسب عليها حتى الماء البارد، ومن نوقش الحساب عُذِّب.
ويشتط الناس في فهم شكر ما أسبغ الله عليهم من النعم لدرجة أنهم يحرمون أنفسهم منها، والله رضي لنا أن نستمتع وأن نشكر (( كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين))((كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون)).
فلا يمكن أن يكون الشكر بتحريم الحلال وهذا من مباديء الصوفية، فالله رضي لنا أن نستخدم النعم المباحات ونشكره عليها سبحانه وتعالى، ولو كان شرطاً في الانتفاع بالنعمة أداء ثمنها شكراً ؛ ما وفّت كل أعمال العباد ولا على نعمة واحدة[أبوء بنعمتك علي وأبوء بذنبي ] فتشكر الله وتعترف بالنعم وتستغفر من التقصير بشكر النعمة.
فالحل أن نستخدم النعم فيما يرضي الله ونثني عليه ونشكره ونستغفره من التقصير في الشكر وهو تعالى رضي منا بهذا..
وقد جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام حتى تفطرت قدماه وتشققت قيل له أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟قال: [ أفلا كون عبداً شكوراً!!]. فتشكر الله على المغفرة.
ومن الوسائل أن ندعو الله أن يعيننا على الشكر[ اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك]، قالها لمعاذ، وسئل الرسول صلى الله عليه وسلم : أي المال نتخذ؟ فلفت نظرهم صلى الله عليه وسلم فقال: [ ليتخذ أحدكم قلباً شاكراً ولساناً ذاكراً وزوجة مؤمنة تعين أحدكم على أمر دينه ودنياه].
قال صلى الله عليه وسلم : (( إن الله ليرضى على العبد أن يأكل الاكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها)).
قال الحسن البصري رحمه الله : إن الله ليمتع بالنعمة ماشاء فإذا لم يشكر عليها قلبها عذاباً ولهذا كانوا يسمون الشكر(الحافظ) لأنه يحفظ النعم الموجودة و ( الجالب) لأنه يجلب النعم المفقودة.
هكذا يحفظ ويحصّل من علو منزلة الشكر وعظمه عند الله، ولا ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر من العبد قيد النعم، فهو يقيد النعمة ألا تنقلب ولا تهرب.
قال عمر بن عبد العزيز: [قيدوا نعم الله بشكر الله]، والشكر مع المعافاة عند بعض أهل العلم أعظم من الصبر على الابتلاء. فقال مطرف بن عبد الله: [لأن أعافي فأشكر أحبُّ إليّ من أن أُبتلى فأصبر].
فإذا رزقت الشكر على النعمة فإن هذا لا يقل عن الصبر على المصيبة. وقال الحسن: [ أكثروا من ذكر هذه النعم فإن ذكرها شكر وقد أمر الله تعالى نبيه أن يحدث بنعمة ربه (( وأما بنعمة ربك فحدث)) والله يحب من عبده أن يرى عليه أثر نعمته فإن ذلك شكرها بلسان الحال].
وقال أبو رجاء العطاردي: خرج علينا عمران بن حصين وعليه معطف من خزّ لم نره عليه من قبل ولا من بعد فقال: [إن رسول الله قال إذا أنعم الله على عبد نعمة يحب أن يرى أثر نعمته على عبده].
وقال صلى الله عليه وسلم : [كلوا واشربوا وتصدقوا في غير مخيلة ولا سرف فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده]، وهنا الضابط والحد الشرعي، فإذا أردت أن تظهر نعم الله عليك فإن ذلك مقيد في عدم الخيلاء والإسراف .
عن أبي الأحوص عن أبيه قال: أتيت رسول الله وأنا قشف الهيئة فقال هل لك من مال؟قلت نعم قال من أي المال؟ قلت من كل المال ، الإبل ، الرقيق، النعم، الخيل.. قال: [ إذا آتاك الله مالاً فليرَ عليك].
وقال الحسن: إذا أنعم الله على قوم سألهم الشكر فإذا شكروه كان قادراً على أن يزيدهم وإذا كفروه كان قادراً على أن يبعث عليهم عذاباً.
وقد ذم الله الكنود وهو الذي لا يشكر نعمه ، قال الحسن: (إن الإنسان لربه لكنود) أي يعد المصائب وينسى النعم.
وفي النساء أظهر، فلو أحسنت إلى إحداهن الدهر وطيلة العمر ثم رأت منك تقصيراً قالت مارأيت منك خيراً قط!، وهذا ظلم ، والنساء أكثر أهل النار لأنهم يكفرن العشير، وإذا كان ترك شكر نعمة الزوج يؤدي إلى جهنم فما حال من يكفر نعمة الله..؟!!

يا أيها الظالم في فعله
والظلم مردود على من ظلم
إلى متى أنت وحتى متى
تشكو المصيبات وتنسى النعم
والتحدث بالنعم شكر وتركها كفر ومن لا يشكر القليل لا يشكر الكثير ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله.
قرأ الرسول صلى الله عليه وسلم على أصحابه سورة الرحمن من أولها إلى آخرها فسكتوا فقال لقد قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن مردوداً منكم فلما قرأت (فبأي آلاء ربكما تكذبان) قالوا: لا شيء من نعمك ربنا نكذب ربنا ولك الحمد..
وقال شُريح: وما أصيب عبد بمصيبة إلا كان لله عليه فيها ثلاث نعم:
1- ألا تكون في دينك.
2- أنها لا تكون أعظم مما كانت.
3- أنها لابد كائنة فقد كانت.
(( ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم)).
كان عمر بن عبد العزيز إذا قلّب بصره في نعمة أنعمها الله عليه قال: [ اللهم إني أعوذ بك أن أبدّل نعمتك كفراً وأن أكفرها بعد أن عرفتها وأن أنساها ولا أثني بها]، لأن الله ذم الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار.
والنبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رُفعت مائدته قال: [ الحمد لله الذي كفانا وأروانا غير مكفيٍّ ولا مكفور، الحمد لله ربنا غير مكفي ولا مودّع ولا مستغنٍ ربنا].
وكذلك من شكر النعم المتجددة أنك تسجد سجود الشكر وفي ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه أمر فسرّ به فخرّ لله ساجداً، وأبو بكر لما جاءه قتل مسيلمة المرتد الذي ألب عليه العرب وأشد الناس على المسلمين خرّ لله ساجداً، وعلي رضي الله عنه لما رأى ذا الثدية في الخوارج أسود مخدّج مقطوع اليد عند العضد مثل حلمة المرأة، وأنه علامة وآية أنه سيقاتل الخوارج أمرهم فبحثوا في جثث القتلى وأخرجوه ؛ سجد علي رضي الله عنه شكراً لله. وكعب بن مالك سجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لما بشر بتوبة الله عليه.
والسنة لم ترد بسجود الشكر يومياً لكنها وردت في النعم المتجددة والتي تذكر بالنعمة المستديمة، ولأن هذه النعم المتجددة العظيمة لها وقع في النفوس والقلوب أعلق بها وأهنأ والإنسان يُعزّى بفقدها فإن ما توجبه من فرح النفس وانبساطها والذي يدفع الأشر والبطر عند نزول النعمة فجأة.
ومن النعم المتجددة كما يقول أحد السلف: بشّرت الحسن بموت الحجاج وهو مختفٍ فخرّ لله ساجداً،فموت ظالم نعمة و ولادة مولود ، وجاء الخبر في الانتصار.
قال ابن القيم: [ الدين نصفان، نصف شكر ونصف صبر، فهو قاعدة كل خير، والشكر مما يحبه الله فهو يحب أن يُشكر عقلاً وشرعاً وفطرةُ]، فوجوب شكره أظهر من كل واجب، وقد فاوت الله بين عباده بالنسبة للنعم الظاهرة والباطنة وفي خلقهم وأخلاقهم و أديانهم وأرزاقهم ومعايشهم. لذلك فقد روى الإمام أحمد في كتاب الزهد: [ قال موسى هلاّ سويت بين عبادك قال إني أحببت أن أشكر]، فالتفاوت بين العباد يؤدي إلى الشكر.
وقد تنازع أهل العلم بين الفقير الصابر والغني الشاكر، أيهما أفضل في كلام طويل، والظاهر أن كل واحد في حق صاحبه أفضل، فالشطر في حق الغني أفضل والصبر في حق الفقير أفضل.
6- الرضا
عمل عظيم من أعمال القلوب و من رؤوسها .
الرضا : ضد السخط " اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك " .
الرضا : يقال ( في عيشةٍ راضيةٍ ) ، أي : مرضيةٍ ذات رضا .
الرضوان : الرضا الكثير .
الرضا في الشرع : رضا العبد عن الله : أن لا يكره ما يجري به قضاؤه ، و رضا الله عن العبد أن يراه مؤتمراً بأمره منتهياً عن نهيه .
أرضاه : أي أعطاه ما يرضى به ، و ترضَّاه : أي طلب رضاه .
إذا العجوز غضبت فطلِّقِ
و لا ترضَّاها و لا تملَّقِ
و لمَّا كان أعظم رضا هو رضا الله سبحانه و تعالى ؛ خُصَّ لفظ الرضوان بما كان من الله عز وجل (( يبتغون فضلاً من الله و رضواناً )) و قال عز و جل : (( يبشرهم ربهم برحمة منه و رضوان )) . و إذا نظرنا إلى هذا الرضا في القرآن فإننا سنجده في عدد من المواضع . . .
1/ قال الله عز و جل في العمل ابتغاء مرضاته سبحانه : (( و من الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله و الله رؤوف بالعباد )) ، يشري نفسه : يبيع نفسه بما وعد الله به المجاهدين في سبيله ، ابتغاء مرضاة الله : أي أن هذا الشاري يشري ( يكون مشترياً حقاً)
إذا اشترى طلب مرضاة الله . .
* كذلك في الصدقات ، قال تعالى : (( و مثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله )) ،
أي : يتصدقون بها و يحملون في سبيل الله و يقوّون أهل الحاجة من الغزاة و المجاهدين طاعةً لله و طلباً لمرضاته . .
* و قال الله عن الذين يعملون أعمال البر ابتغاء رضاه . .
(( لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقةٍ أو معروفٍ أو إصلاح ٍ بين الناس و من يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً)) ، فأخبر تعالى عن عاقبة هذا بقوله : (( فسوف نؤتيه أجراً عظيماً )) إذا فعله ابتغاء مرضاة الله . .
• و قد رضي الله الإسلام ديناً لهذه الأمة ، فهذا مما رضيه سبحانه . .
(( اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام ديناً ))
أي : رضيتُ لكم أن تستسلموا لأمري و تنقادوا لطاعتي على ما شرعته لكم و أن تستسلموا لشرعي و تنقادوا إليه طاعةً منكم لي
• و كذلك قوله تعالى : (( يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبيّن لكم كثيراً مما كنتم تُخفون من الكتاب و يعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور و كتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام و يخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه و يهديهم إلى صراط مستقيم )) ، فيهدي سبحانه بهذا الكتاب المبين و يرشد و يسدِّد . .
* و الرضا من الله سبحانه و تعالى أن يقبل العبد و هو مدح و ثناء ، و كذلك فإنه عز و جل يرضى عنه و يقتضي رضاه على العبد الثناء عليه ومدحه . .
• و قال عز و جل عن المنافقين و هم يحلفون الأيمان . .
(( يحلفون بالله لكم ليرضوكم و الله و رسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين ))
فهؤلاء المنافقين يريدون بالأيمان الكاذبة الخداع ، و يريدون الكيد للمسلمين و يحلفون الأيمان الفاجرة أنهم لا يريدون شراً بالمسلمين و أنهم لا يريدون المكيدة لهم ، و لكنّ الله أبى أن يقبل المسلمون منهم هذا . . و لو أنهم كانوا صادقين لأرضوا ربهم تبارك و تعالى و ليس أن يسعوا في إرضاء المخلوقين . .
* و كذلك فإن الله سبحانه ذكر في كتابه العزيز الذي يبني المساجد ابتغاء مرضاة الله ..
(( أ فمن أسّس بنيانه على تقوى من الله و رضوان خير أمّن بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم )) فهؤلاء الذين بنوا المساجد خير أيها الناس عندكم من الذين ابتدؤوا البناء على اتقاء الله بطاعته في بنائه و أداء فرائضه و رضا من الله لبنائهم ، فما فعلوه هو خير لهم . أما الذين ابتدؤوا بناءهم على شفا جرف هار فستكون عاقبتهم في النار ، فأيّ الفريقين خيرٌ إذاً ؟!!
• كذلك أثنى الله على الفقراء المهاجرين الذين خرجوا من مكة إلى المدينة و تركوا ديارهم و أموالهم يبتغون فضلاً من الله و رضواناً
• و كذلك أراد الله أن يولّي نبيه قِبلة يرضاها فجعل يحوّل النبي صلى الله عليه و سلم
و يصرف بصره في السماء يتمنى أن تحوّل القِبلة من بيت المقدس إلى الكعبة حتى أنزل الله
(( فلنولّينّك قِبلة ترضاها )) أي : فلنصرفنّك عن بيت المقدس إلى قِبلة تهواها و تحبّها .
• أداء الواجبات سبيل إلى رضوان الله عز و جل . .
(( الذين آمنوا و هاجروا و جاهدوا في سبيل الله بأموالهم و أنفسهم أعظم درجة عند الله و أولئك هم الفائزون )) . . و النتيجة ؟!! (( يبشرهم ربهم برحمة منه و رضوان
و جنات لهم فيها نعيم مقيم * خالدين فيها أبداً إن الله عنده أجر عظيم )) . .
• وكذلك الصبر على الطاعة و العبادة يؤدي إلى حصول الرضا من العبد على الرب و من الرب على العبد ، و من العبد عن الرب و من الرب عن العبد . .
(( فاصبر على ما يقولون و سبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس و قبل غروبها و من آناء الليل فسبِّحْ و أطراف النهار لعلَّك ترضى )) . .
* و الله يرضي أهل الإيمان و الدين لَمَّا ضحَّوا في سبيله ، يرضيهم و يعطيهم يوم القيامة
حتى يأخذوا كل ما كانوا يرجونه و زيادة . .
(( و الذين هاجروا في سبيل الله ثم قُتِلُوا أو ماتوا ليرزقنّهم الله رزقاً حسناً و إن الله لهو خير الرازقين * ليدخلنّهم مُدْخَلاً يرضونه و إن الله لعليم حليم )) . .
• و إن الصحابة لما جاهدوا في سبيله و اتبعوا نبيه و دافعوا عن شريعته و نشروا دينه و بلّغوا شريعته . .
(( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً )) . .
و هؤلاء الذين هاجروا في سبيل الله لا يوادّون من حادّ الله و رسوله و لو كانوا آباءهم
أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان و أيّدهم بروحٍ منه و يدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم و رضوا عنه ..
فالرضا هنا متبادل بين الرب و العبد . .
و يوم القيامة ستكون العيشة الراضية عاقبة هؤلاء و أهل اليمين ، قال تعالى : (( فأما من أوتي كتابه بيمينه * فيقول هاؤم اقرؤوا كتابيه * إني ظننت أني مُلاقٍ حسابيه * فهو في عيشة راضية )) ، و قال تعالى : (( وجوه يومئذٍ ناعمة * لسعيها راضية )) ، و قال تعالى : (( يا أيّتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضيّة )) ، و قال تعالى : (( و سيجنّبها الأتقى * الذي يؤتي ماله يتزكّى * و ما لأحدٍ عنده من نعمةٍ تُجْزَى * إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى * و لسوف يرضى ))،و قال تعالى : (( فأما من ثَقُلَتْ موازينه *فهو في عيشة راضية )) . .
• رضا الله عز و جل أعلى مطلوب للنبيّين و الصديقين . .
(( ذكر رحمت ربك عبده زكريّا * إذ نادى ربه نداءً خفياً * قال ربِّ إنّي وهن العظم منّي و اشتعل الرأس شيباً و لم أكن بدعائك ربِّ شقياً * و إني خفت الموالي من ورائي و كانت امرأتي عاقراً فهب لي من لدنك وليّاً * يرثني و يرث من آل يعقوب و اجعله ربِّ رضِيَّاً )) .
(( و اذكر في الكتاب إسماعيل إن كان صادق الوعد و كان رسولاً نبياً * و كان يأمر أهله بالصلاة و الزكاة و كان عند ربه مرضيَّاً )) . .
ماذا فعل موسى عندما استعجل لقاء الله ؟! و لماذا استعجل ؟!!
(( و ما أعجلك عن قومك يا موسى * قال هم أولاء على أثري و عجلتُ إليك ربِّ لترضى )) .. استعجل الخير و اللقاء لينال رضا الله . .
و كذلك سليمان عليه السلام لما سمع كلام النملة تبسم ضاحكاً من قولها ، و قال :
(( ربِّ أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي َّ و على والديَّ و أن أعمل صالحاً ترضاه )) . .
وكذلك فإن هذا الإنسان الذي يبلغ أشده و يبلغ أربعين سنة يقول صاحبه :
(( ربِّ أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليَّ و على والديَّ و أن أعمل صالحاً ترضاه )) . .
و هذا مطلوب الصحابة لمّا عبدوا الله يبتغون فضلاً من الله و رضواناً ..
و يوم القيامة : الفئة هذه المرضيّ عنها هي التي تشفع و الذين لا يرضى الله عنهم
ليسوا من أهل الشفاعة . .
(( يومئذٍ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن و رضي له قولاً )) . .
فأهل رضاه يشفعون . .
و قال عز و جل : (( و لا يشفعون إلا لمن ارتضى )) ..
و شرع الله لنا ديناً يرضيه لنا (( و ليمكّننّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم )) . .
و من الأمور التي ينبغي على العبد : أن يرضى بما قسم الله له . .
و يعمل الزوج لكي ترضى زوجاته عن عيشهنّ بالعدل بينهنّ (( * ترجي من تشاء منهنّ و تؤوي إليك من تشاء و من ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك ذلك أدنى أن تقرَّ أعينهنّ و لا يحزنّ و يرضين بما آتيتهنّ كلهنّ )) ..
إذا انتقلنا إلى سنّة النبي صلى الله عليه و سلم ، نجد طائفة من الأحاديث عن الرضا :
• أخبر أن الله يرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها و يشرب الشربة فيحمده عليها .
• أخبر أن الله رضي لنا أن نعبده لا نشرك به شيئاً و أن نعتصم بحبله و ألا نتفرق ،
و كره لنا قيل و قال و كثرة السؤال و إضاعة المال .
• أخبر أن رضا الرب في رضا الوالد .
• أخبر أن السواك مطهرة للفم و مرضاة للرب .
• أخبر أن من التمس رضا الله بسخط الله رضي الله عنه و أرضى عنه الناس .
• أخبر أن ملائكته تلعن المتمردة على زوجها الناشزة عن فراشه حتى يرضى عنها .
• أخبر أنه عندما مات ولده لا يقول إلا ما يُرضي الرب ، فلما مات إبراهيم جعلت عيناه تذرفان ، ثم أتبع الدمعة بدمعةٍ أخرى ، و قال : (( إن العين لتدمع ، و إن القلب ليحزن ، و لا نقول إلا ما يُرضي ربنا ، و إنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون )) .
• علّمنا في السجود في الدعاء .
(( نستعيذ برضا الله من سخطه )) .
هذا الرضا شأنه عظيم و أمره كبير و منزلته في الدين عالية ..
هذا الرضا عليه مدار أمورٍ كثيرةٍ من الأمور الصالحات ، هذا الرضا الذي هو من منازل السائرين و السالكين ، ما حكمه ؟
هل هو واجبٌ ؟! أم مستحبٌ ؟!
قال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله : و أما الرضا فقد تنازع العلماء و المشايخ من أصحاب الإمام أحمد و غيرهم في الرضا بالقضاء ، هل هو واجبٌ أو مستحبٌ على قولين : فعلى الأول يكون من أعمال المقتصدين ، و على الثاني يكون من أعمال المقرَّبين . و الخلاصة : أن أصل الرضا واجب و منازله العليا مستحبّة .
و الرضا له أصلٌ و مراتبٌ أعلى من الأصل . .
فيجب الرضا من جهة الأصل : ( فالذي ليس عنده رضا عن الله و الدين و الشرع و الأحكام فهذا ليس بمسلمٍ ) ..
فلابد لكلِّ مسلمٍ موحّدٍ يؤمن بالله و اليوم الآخر من درجةٍ من الرضا ، أصل الرضا لابد أن يكون متوفّراً ؛ لأنه واجبٌ .. فقد قال صلى الله عليه و سلم : (( ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً و بالإسلام ديناً و بمحمد نبياً )) ..
قال تعالى : (( فلا و ربك لا يؤمنون حتى يُحَكِّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيتَ و يُسَلِّموا تسليماً )) و هذا هو الرضا (( و لو أنهم رضوا ما آتاهم الله و رسوله و قالوا حسبنا الله ..)) .. (( ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله و كرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم )) ..
حتى المنهيّات لابد أن نفهم ما معنى الرضا بالمنهيّات ؟!
لا يُشْرَع الرضا بالمنهيّات طبعاً ..
كما لا تُشْرَع محبتها ؛ لأن الله لا يرضاها و لا يحبها..
و الله لا يحب الفساد و لا يرضى لعباده الكفر .. و هؤلاء المنافقين يُبَيّتون ما لا يرضى من القول ، بل اتبعوا ما أسخط الله و كرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم . .
فالرضا الثابت بالنص هو أن يرضى بالله رباً و بالإسلام ديناً و بمحمدٍ صلى الله عليه و سلم نبياً ،يرضى بما شرعه الله لعباده من تحريم حرامٍ أو إيجاب واجبٍ أو إباحة مباحٍ ، يرضى عن الله سبحانه و تعالى و يرضى عن قضائه و قدره و يحمده على كل حالٍ و يعلم أن ذلك لحكمةٍ ، و إن حصل التألم بوقوع المقدور ..
فإن قال قائل : لماذا يحمد العبدُ ربَّه على الضراء ؟ إذا مسّه الضراء ؟.. فالجواب من وجهين :
1/ أن تعلم أن الله أحسنَ كل شيءٍ خلَقه و أتقنَه ، فأنت راضٍ عما يقع في أفعاله؛ لأن هذا من خلقه الذي خلقه ، فالله حكيم لم يفعله إلا لحكمةٍ .
2/ أن الله أعلم بما يصلحك و ما يصلح لك من نفسك ، و اختياره لك خيرٌ من اختيارك لنفسك .
قال صلى الله عليه و سلم : (( و الذي نفسي بيده لا يقضي الله لمؤمنٍ قضاءً إلا كان خيراً له )) و ليس ذلك إلا للمؤمن (( ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً ))
فهذا حديثٌ عظيمٌ : فالمسلم في أذكار الصباح و المساء و في أذكار الأذان بعد " أشهد أن محمداً رسول الله " الثانية يقول : (( رضيتُ بالله رباً و بالإسلام ديناً و بمحمد نبياً )) ..
رضا بربوبيته سبحانه و رضا برسوله صلى الله عليه و سلم و الانقياد و التسليم و لذلك من حصلت له هذه الأمور الأربعة : الرضا بربوبيته و ألوهيته سبحانه و الرضا برسوله و الانقياد له و الرضا بدينه و التسليم له فهو الصدِّيق حقاً ..
و هي سهلةٌ بالدعوى ، و لكن ما أصعبها عند الامتحان !!!
أما الرضا بالله : فيتضمّن الرضا بمحبته وحده و الرضا بعبادته وحده أن تخافه وحده ترجوه و تتبتّل إليه و تتذلل إليه عز و جل و تؤمن بتدبيره و تحب ذلك و تفرده بالتوكل عليه و الاستعانة به و تكون راضياً عما يفعل عز و جل فهذا رضا بالله ..
ترضى بما قدّر و حكم .. حَكَم أن الزنا حرامٌ ، و أن الربا حرامٌ ، و أن بر الوالدين واجبٌ ، و أن الزكاة فرضٌ ، فيجب أن ترضى بحكمه ..
قدّر عليك أشياء من فقرٍ ، و ضيق حالٍ ، فيجب أن ترضى ..
الرضا بمحمدٍ صلى الله عليه و سلم نبياً : أن تؤمن به و تنقاد له و تستسلم لأمره و يكون أولى بك من نفسك ، و أنه لو كان موجوداً صلى الله عليه و سلم و وجِّهَ إليه سهمٌ وجب عليك أن تتلقاه عنه و أن تفتديه بنفسك ، و أن تموت فداءً له .
و ترضى بسنّته فلا تتحاكم إلا إليها ..
ترضى بسنّته فلا ترجع إلا إليها و لا تُحَكِّم إلا هي ..
الرضا بالإسلام ديناً : فما في الإسلام من حكمٍ أو أمرٍ أو نهيٍ فإنك ترضى عنه تماماً و ليس في نفسك أيّ حرجٍ و تُسَلِّم تسليماً كاملاً لذلك و لو خالف هواك و لو كان أكثر الناس على خلافه و لو كنتَ في غربةٍ و لو كانت عليك الأعداء مجتمعون فيجب أن ترضى بأحكام الدين و تسعى لتنفيذها و إن خالفتَ العالم ..
سؤال / الرضا هل هو شيءٌ موهبيٌّ أم كسبيٌّ ؟ أي : هل يُوهَبُ من الله أم يمكن للعبد تحصيله ؟ هل هو فطريٌّ أم العبد يُحَصِّل هذا بالمجاهدة و رياضة النفس إذا روَّض نفسه ؟!!
الرضا كسبيٌّ باعتبار سببه ، موهبيٌّ باعتبار حقيقته ..
فإذا تمكن العبد في أسباب الرضا و غرس شجرة الرضا في قلبه جنى الثمرة ..
لأن الرضا آخر التوكل ..
بعدما يعجز التوكل يأتي الرضا ..
و الذي ترسخ قدمه في طريق التوكل ينال الرضا ..
لأن بعد التوكل و التسليم و التفويض يحصُل الرضا ، و بدونها لا يحصل الرضا ،
و لذلك لو قال أحدهم : نريد تحصيل الرضا ، نقول له : يجب أن يكون لديك توكلٌ صحيحٌ و تسليمٌ و تفويضٌ ثم ينتج الرضا بعد ذلك ..
و لذلك لم يُوجِب الله على عباده المنازل العالية من الرضا ؛ لأن ذلك شيءٌ صعبٌ جداً ، و أكثر النفوس ربما لا يحصُل لها ذلك ..
فالله ندب إليه و لم يوجبه ( ليس أساس الرضا و إنما ما فوق ذلك ) ..
فإذا حصل للعبد شيءٌ فإنه لابد أن يكون محفوفاً بنوعيه من الرضا : رضا قبله ، و رضا بعده ..
و كذلك الرضا من الله عز و جل عن العبد إنما هو ثمرة رضا العبد عن الرب سبحانه ، فإذا رضيتَ عن الله رضي الله عنك ..
و الرضا باب الله الأعظم و جَنة الدنيا و مُسْتَراح العارفين و حياة المحبين و نعيم العابدين و هو من أعظم أعمال القلوب ..
قال يحيى بن معاذ لما سئل : متى يبلغ العبد إلى مقام الرضا ؟ قال : (( إذا أقام نفسه على أربعةِ أصولٍ يُعامِل بها ربه ..
يقول : إن أعطيتني قبلتُ ، و إن منعتني رضيتُ ، و إن تركتني عبدتُ ، و إن دعوتني أجبتُ .. )) ..
و الرضا إذا باشر القلب ؛ فإنه يدل على صحة العلم و ليس الرضا و المحبة كالرجاء و الخوف ، فمن الفروق أن أهل الجنة مثلاً لا يخافون في الجنة و لا يرجون مثل رجاء الدنيا .. لكن لا يفارقهم الرضا أبداً ..
فإن دخلوا الجنة فارقهم الخوف (( لا خوفٌ عليهم و لا هم يحزنون )) ..
في الدنيا هناك خوف .. إذا دخلوا الجنة زال الخوف .. أما الرضا فلا يزول .. خارج الجنة و داخلها .. الرضا موجودٌ ..
الخوف و الرجاء في الدنيا ليس موجوداً عند أهل الجنة يفارقون العبد في أحوال..
أما الرضا فلا يفارق العبد لا في الدنيا و لا في البرزخ و لا في الآخرة و لا في الجنة ، ينقطع عنهم الخوف ؛ لأن الشيء الذي كانوا يخافونه أمِنوه بدخولهم الجنة ، و أما الشيء الذي كانوا يرجونه فقد حصل لهم ، أما الرضا فإنه لا يزال معهم و إن دخلوا الجنة : معيشتهم راضيةٌ و هم راضون ، و رضوا عن الله ، و راضون بثوابه و ما آتاهم في دار السلام ..
• هل يشترط أن الرضا إذا حصل لا يكون هناك ألمٌ عند وقوع مصيبة ؟!
الجواب : ليس من شروط الرضا ألا يحس العبد بالألم و المكاره ، بل من شروط الرضا عدم الاعتراض على الحكم و ألا يسخط ، و لذلك فإن الرضا لا يتناقض مع وجود التألم و كراهة النفس لما يحصل من مكروه ..
• فالمريض مثلاً يرضى بشرب الدواء مع أنه يشعر بمرارته و يتألم لمرارته ، لكنه راضٍ بالدواء مطمئنٌ بأخذه مقبلٌ على أخذه ، لكنه في ذات الوقت يَطْعَم مرارة الدواء ..
• الصائم رضي بالصوم و صام و سُرَّ بذلك .. لكنه يشعر بألم الجوع .. هل بشعوره بألم الجوع يكون غير راضٍ بالصيام ؟! لا .. هو راضٍ بالصيام و يشعر بالجوع ..
* المجاهد المخلص في سبيل الله راضٍ عند الخروج للجهاد .. و مُقْدِمٌ عليه .. مقتنع به ..
لكن يحس بالألم .. و التعب .. و الغبار .. و النعاس .. و الجراح ..
إذاً لا يشترط أن يزول الألم و الكراهية للشيء إذا حصل الرضا ، لكن بعض أصحاب المقامات العالية جداً يستلذّون بالألم إذا حصل في الجهاد أو الصيام ..
لكن لا يشترط أن الفرد إذا أحس بالألم في العبادة أن يكون غير راضٍ .. ليس شرطاً .,.
و طريق الرضا طريقٌ مختصرٌ قريبةٌ جداً ، لكن فيها مشقةٌ ، و ليست مشقتها أصعب من مشقة المجاهدة ، و لكن تعتريها عقبتان أو ثلاث : 1/ همةٌ عاليةٌ ،
2/ نفسٌ زكيّةٌ ، 3/ توطين النفس على كل ما يَرِدُ عليها من الله تعالى ..
و يسهُل ذلك على العبد إذا عرف ضعفه و قوة ربه ، و جهله و علم ربه ،
و عجزه و قدرة ربه .. و أن الله رحيمٌ شفيقٌ به ، بارٌّ به ، فهو البرُّ الرحيم ..
فالعبد إذا شهد هذه المقامات رضي ، فالله عليمٌ حكيمٌ وهو رؤوفٌ ، وهو أعلم بما يُصْلِح العبد من العبد ، و توقن أن ما اختاره لك هو الأفضل و الأحسن ..
عباراتٌ أحياناً ترد لكن الإنسان إذا آمن بها وصل إلى المطلوب ..
أحياناً هناك مقاماتٌ إيمانيةٌ يبلغها الإنسان بقلبه و يأخذ بها أجراً عظيماً يرتقي بها عند الله وهي عبارةٌ عن تفكّراتٍ ( يفكّر فيها فيهتدي إليها فيأخذ بها فيحصل على المطلوب فلم يبذل جهداً بل هي أشياءٌ تأمليةٌ ) ..
فالتفكّر من أعظم العبادات ...
فإذا تفكّر العبد أن ما يختاره له ربه هو الأحسن و الأفضل ..
فإذا آمن بها الإنسان رضي ..
و تحصيل الرضا غير معقّدٍ .. كيف ؟!
أن تؤمن بأن ما اختاره الله لك وقدّره عليك هو أحسن شيءٍ لك .. سواءً كان موتُ ولدٍ أو مرضٍ أو تركُ وظيفةٍ ..
لكن أنت قد تجهل لماذا هو أحسن شيءٍ !! أنت لا تعلم لماذا لو أعطاك ليس مصلحتك !!
أنت في حال الفقر لا تعلم لماذا ليس في مصلحتك أن تحصّل المال .. و هكذا ..
فنتيجة إذا اعترف العبد بجهله و آمن بعلم ربه و أن اختياره له أولى و أفضل
و أحسن من اختياره لنفسه ..
وصلنا إلى الرضا ..
* فطريق المحبة و الرضا تسير بالعبد و هو مستلقٍ على فراشه فيصير أمام الركب بمراحل !!
هناك أناسٌ يعملون و يجهدون و صاحب الرضا بعبادته القلبية يسبقهم بمراحل ،
و هم من خلفه مع أنه على فراشه و هم يعملون ؛ لأنه راضٍ عن الله و يتفكّر في هذا الأمر و يؤمن به فيقترب من الله و أناسٌ لم يصلوا لهذا المستوى و يعملون و يجهدون ...
لذلك أعمال القلوب مهمةٌ جداً ؛ لأن المرء يمكن يبلغ بها مراتب عند الله و هو قاعدٌ ..
و هذا لا يعني ألا يعمل و لا يصلي ..
و قد يكون هناك أناسٌ آخرين أكثر منه عملاً ( صيام ــ صدقة ــ حج ) ، لكنهم أقل منه درجةً ..
لماذا ؟!!
لأنك بهذا العلم بأعمال القلوب قد تحصّل مراتب عند الله أكثر منهم ؛ لأن عمل القلب نفسه يرفع العبد في كثيرٍ من الأحيان أكثر من عمل الجوارح …
فأبو بكر ما سبق أهل هذه الأمة لأنه أكثرهم صلاةً و قياماً في الليل ... هناك أناسٌ أكثر منه في عمل العبادات و الجوارح ... لكن سبقهم بشيءٍ وَقَرَ في نفسه ..
الرضا عن الله لو تحققت في صدر العبد ؛ تميز بين مستويات العباد و ترفع هذا فوق هذا .. ينبغي التفطّن لها .. كما تعمل بالجوارح هناك أعمال قلوبٍ لا تقل أهميةً بل هي أعلى منها ، مع الجمع بين الواجب من هذا و ذاك ..
و لكن قد يدرك الإنسان أحياناً بتفطّنه و تأمله و تفكّره و إيمانه مراتب أعلى من الذي أكثر منه عملاً بالجوارح .. و لذلك يقول ابن القيّم :(( فطريق الرضا و المحبة تسيّر العبد و هو مستلقٍ على فراشه فيصبح أمام الركب بمراحل )) " و هو على فراشه " ..
الرضا مقاماتٌ فمنها :
3/ الرضا بما قسم الله و أعطاه من الرزق و هذا ممكنٌ يجيده بعض العوامّ ..
و المرتبة الأعلى :
2/ الرضا بما قدّره الله و قضاه ..
و مرتبةٌ أعلى من هذه ..
1/ أن يرضى بالله بدلاً من كل ما سواه ..
هذه منازل قد يأتي البعض بواحدةٍ و لا يقدر على الأخرى ، و قد يأتي البعض بجزءٍ من الدرجة .. و لا يحقق كل الدرجة ..
قد يرضى عن الله فيما قسم له من الزوجة و لا يرضى بما قسم له في الراتب .. مثلاً ..
قد يصبر على سرقة المال .. و لا يصبر على فقد الولد ..
• و أما أن الإنسان يرضى بالله عن كل ما سواه ، معنى ذلك أن يهجر كل شيءٍ لا يؤدي إلى الله ( ملاهٍ ــ ألعاب ــ أمورٌ مباحةٌ لا تقود إلى الله ) فالمشتغل بها لا يعتبر أنه رضي بالله عن كل ما سواه .. هذه حالةٌ خاصةٌ لشخصٍ مع الله دائماً، كل شيءٍ أي عملٍ أي حركةٍ أي سكنةٍ كلها طريقٌ إلى الله تؤدي إلى مرضاة الله .
درجات الرضا :
• منها الرضا بالله رباً و تسخّط عبادة ما دون الله ، و هذا قطب رحا الإسلام لابد منه ، أن ترضى بالله و لا ترضى بأي إلهٍ آخر .. ( بوذا .. ما يعبده المشركون .. اليهود .. النصارى ) ، لم يتخذ غير الله رباً يسكن إليه في تدبيره و ينزل به حوائجه ..
• و هذا محرومٌ منه غلاة الصوفية المشركون عبّاد القبور ، فينزلون حوائجهم بالأولياء و الأقطاب و يسألونهم و يستغيثون بهم و يتوكّلون عليهم و يرجون منهم ما لا يقدر عليه إلا الله ..
لو آمنوا بالله حقاً لطلبوا المدد من الله و لم يذهبوا إلى المخلوقين في قبورهم ، يقولون :
يا فلان المدد ، يا فلان أغثنا ..!!
ثم يأتي الصوفية و يقولون : نحن متخصّصون بالقلوب و قد ضيّعوا الأساس ..!!
(( قل أ غير الله أبغي رباً و هو ربُّ كل شيءٍ ))؟ قال ابن عباس : " يعني سيداً و إلهاً ، فكيف أطلب رباً غيره و هو ربُّ كل شيءٍ ؟!! "
(( قل أ غير الله أتخذ ولياً فاطرِ السماوات و الأرض )) يعني : أ غير الله أتخذ معبوداً
و ناصرا و مُعيناً و ملجأً ؟!!
ولياً من الموالاة التي تتضمّن الحب و الطاعة ..
(( أ فغير الله أبتغي حكماً و هو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصّلاً )) هل أرضى بحَكَمٍ آخر يحكم بيني و بينكم غير الله بكتابه و سنّة نبيه صلى اله عليه و سلم ..
فلو قال أحدهم : أنا أرضى بالقانون الوضعيّ يحكم بيننا .. هذا لا يمكن أن ينطبق عليه أنه يؤمن بالله ربا ..!! إذاً هناك أناسٌ يدّعون الرضا بالله ثم يخالفون في تعاملاتهم قاعدةً و أساساً من أعظم الأسس ..، فإذا رضيت بالله رباً : يجب أن ترضى به حَكَماً (( إنِ الحُكْمُ إلا لله )) و من خصائصه سبحانه : أن التحكيم و الحُكْمَ له سبحانه وحده ..
ثم إذا تأملتَ هذه الأمور عرفتَ أن كثيراً من الناس يدّعون الرضا بالله رباً و بالإسلام ديناً و بمحمدٍ نبياً ثم هنا يخالفون حكم الله و يرضون بحكم غيره و يخالفون السنّة و هناك يميلون و يوالون أصحاب دياناتٍ أخرى ، فأين هم من هذه الثلاثة ؟؟!!
و القرآن مليءٌ بوصف المشركين أنهم اتخذوا من دون الله أولياء !! من تمام الإيمان صحة الموالاة و مدار الإسلام على أن يرضى العبد بعبادة الله وحده و يسخط عبادة غيره ..، و الفرق بين الرضا بالله والرضا عن الله :
أ ــ الرضا بالله : تحدثنا عنه .بأنه الله و أنه المعبود فقط لا غيره و أن الحكم له فقط لا لغيره و أن نرضى بما شرع . و لا يمكن أن يدخل فيه المؤمن و الكافر معاً. لا يكون إلا للمؤمن ..
ب ــ الرضا عن الله : أي : ترضى بما قضى و قدّر .. تكون راضياً عن ربك فيما أحدث لك و خلَق من المقادير .. و يدخل فيه المؤمن و الكافر ..
فلابد من اجتماع الأمرين معاً : الرضا بالله و لرضا عن الله ، و الرضا بالله أعلى شأناً و أرفع قدراً ؛ لأنها مختصّةٌ بالمؤمنين . و الرضا عن الله مشتركةٌ بين المؤمن و الكافر ؛ لأن الرضا بالقضاء قد يصح من المؤمن و الكافر ، فقد تجد تصرّف كافرٍ فتقول : هذا راضٍ بالقضاء و مسلّم و لا اعتراض عنده ، لكنه لم يرضَ بالله رباً .
فالرضا بالله رباً آكد الفروض باتفاق الأمّة .. فمن لا يرضى بالله رباً فلا يصح له إسلامٌ و لا عملٌ ..
• الرضا عن الله .. الرضا بالقضاء .. ما حكمه ؟!
يجب التفصيل أولاً في قضيّة القضاء :
1/ قضاءٌ شرعيٌّ : و هو ما شرعه الله لعباده (( و قضى ربك ألا تعبدوا إلا إيّاه و بالوالدين إحساناً )) قضى علينا و شرع .. قد يلتزم العباد به و قد لا يلتزمون به ..
2/ قضاءٌ كونيٌّ : كُنْ فيكون .. إذا قضى الله بموتِ شخصٍ .. أو مرضٍ .. أو شفاءٍ .. أو غنىً .. أو فقرٍ .. أو نزولِ مطرٍ .. إذا قضاها فلا رادّ لقضائه ، قضاءٌ كونيٌّ .. لا يستخلف .. لابد أن يقع .. كُنْ فيكون ..
فبالنسبة للقضاء الشرعي أن يكون عندنا رضا به قطعاً و هو أساس الإسلام و قاعدة الإيمان .. لابد أن نرضى بدون أي حرجٍ و لا منازعةٍ و لا معارضةٍ ..
(( فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيتَ و يسلّموا تسليماً )) ..
لكن الرضا بالمقادير التي تقع ، هناك فرقٌ بين الرضا و الصبر ، الرضا بالمقدور
و الصبر على المقدور .. الرضا درجةٌ أعلى من الصبر ..
ليس الرضا عمليةً سهلةً .. و على ذلك يُحْمَل كلام من قال من العلماء إن الرضا ليس بواجبٍ في المقدور ..
الله لم يوجب على عباده أن يرضوا بالمقدور ( المصائب ) ؛ لأن هذه الدرجة لا يستطيعها كل العباد ، و لكن أوجب عليهم الصب ، و هناك فرقٌ بين الرضا و الصبر ..
قد يصبر الإنسان و هو يتجرّع المرارة و ألم المصيبة ، و يمسك نفسه و يحبسها عن النياحة و شقّ الجيب أو قول شيءٍ خطأٍ ، فنقول : هو صابرٌ ..
لكن هل وصل إلى مرحلة الرضا ؟!!
يعني هل وصل إلى مرحلة الطمأنينة و الرضا بهذه المصيبة ؟!!
ليس كل الناس يصلون إلى هذا ..
لا يجوز لطم الخدود و لا النياحة و لا شقّ الجيب ؛ لأن هذا ضد الصبر الواجب، فالرضا لم يوجبه الله على كل عباده .. لكن من وصل إلى الرضا شأنه عظيمٌ ..
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( الرضا بالقضاء ثلاثة أنواعٍ :
1ــ أحدها : الرضا بالطاعات : و حكمها طاعةٌ ..
2ــ الرضا بالمصائب : فهذا مأمورٌ به ، فهو إما واجبٌ أو مستحبٌّ ..
أما الواجب : فهو ما يوازي الصبر و هو الدرجة الأولى من الرضا ..
أما الدرجة العليا من الرضا عند المصيبة التي فيها سكينة النفس التامة : فهذا عزيزٌ لا يصل إليه إلا قلّةٌ من المخلوقين ..
و الله من رحمته لم يوجبه عليهم ؛ لأنهم لا يستطيعونه ..
3ــ الرضا بالمعصية : معصيةٌ .. ) ..
• فما حكم الرضا بالكفر و الفسوق و العصيان ؟!
يرى في أهله الخبث و هو راضٍ .. الرضا بالمعصية معصيةٌ حرامٌ ..
الرضا بالكفر .. كفرٌ ..
حكم الرضا بالمعصية .. لا يجوز ..
بل الإنسان مأمورٌ ببغض المعصية ، و الله لا يحب الفساد و لا يرضى لعباده الكفر و لا يحب المعتدين و لا يحب الظلم و لا الظالمين ..
ثمرات الرضا:
إن للرضا ثمراتٌ كثيرةٌ .. على رأسها ..
1ــ الرضا و الفرح و السرور بالرب تبارك و تعالى .. و النبي صلى الله عليه
و سلم كان أرضى الناس بالله و أسرّ الناس بربه و أفرحهم به تبارك و تعالى ..
فالرضا من تمام العبودية و لا تتم العبودية بدون صبرٍ و توكلٍ و رضا و ذلٍّ و خضوعٍ و افتقارٍ إلى الله ..
2ــ إن الرضا يثمر رضا الرب عن عبده ، فإن الله عز و جل رضي بمن يعبده عمّن يعبده على من يعبده و إذا ألححتَ عليه و طلبتَه و تذلّلتَ إليه أقبل عليك.
3ــ الرضا يخلّص من الهمّ و الغمّ و الحزن و شتات القلب و كسف البال و سوء الحال ، و لذلك فإن باب جنة الدنيا يفتَح بالرضا قبل جنة الآخرة ؛ فالرضا يوجب طمأنينة القلب و بَرْده و سكونه و قراره بعكس السخط الذي يؤدي إلى اضطراب القلب و ريبته و انزعاجه و عدم قراره
فالرضا ينزِل على قلب العبد سكينةً لا تتنزّل عليه بغيره و لا أنفع له منها ؛ لأنه متى ما نزلت على قلب العبد السكينة : استقام و صلُحت أحواله و صلُح باله ، و يكون في أمنٍ و دَعَةٍ و طيبِ عيشٍ ..
4ــ الرضا يخلّص العبد من مخاصمة الرب في الشرائع و الأحكام و الأقضية ..
مثلاً إبليس لما أُمِر بالسجود عصى ؟ رفض ؟
لم يرضَ .. كيف أسجد لبشرٍ خلقتَه من ترابٍ ؟ .. فعدم الرضا من إبليس أدّى إلى اعتراضٍ على أمر الله .. فإذاً منافقو عصرنا الذين لا يرضون بحكم الله في الربا و الحجاب و تعدّد الزوجات في كل مقالاتهم في مخاصمةٍ مع الرب سبحانه .. لماذا ؟!!! … كلامهم يدور على مخاصمة الرب في شرعه و إن لم يصرّحوا بهذا .. ! فالرضا يخلّص الإنسان من هذه المخاصمة ..
5ــ الرضا من العدل .. الرضا يُشْعِر العبد بعدل الرب ..و لذلك كان صلى الله عليه و سلم يقول : (( عدلٌ فيَّ قضاؤك )) .. و الذي لا يشعر بعدل الرب فهو جائرٌ ظالمٌ ، فالله أعدل العادلين حتى في العقوبات ..
فقطع يد السارق عقوبةٌ ،فالله عدَل في قضائه و عقوباته فلا يُعْتَرض عليه لا في قضائه و لا في عقوباته ..
6ــ و عدم الرضا إما : 1ــ لفواتِ شيءٍ أخطأك و أنت تحبه و تريده ..
2ــ أو لشيءٍ أصابك و أنت تكرهه و تسخطه .. فيحصل للشخص الذي ليس عنده رضا قلقٌ و اضطرابٌ إذا نزل به ما يكره و فاته ما يحب حصل له أنواع الشقاء النفسي، و إذا كان راضياً لو نزل به ما يكره أو فاته ما يحب ما شقي و لا تألّم ؛ لأن الرضا يمنع عنه هذا الألم ، فلا هو يأسى على ما فاته و لا يفرح بما أوتي .. (( لكيلا تأسوا على ما فاتكم و لا تفرحوا بما آتاكم )) ..
* الرضا مفيدٌ جداً أن المرء لا يأسف على ما فاته و لا يحزن و لا يتكدّر
على ما أصابه ؛ لأنه مقدّرٌ مكتوبٌ ..
7ــ الرضا يفتح باب السلامة من الغشّ و الحقد و الحسد ؛ لأن المرء إذا لم يرضَ بقسمة الله سيبقى ينظر إلى فلانٍ و فلانٍ .. فيبقى دائماً عينه ضيقةٌ و حاسدٌ
و متمنٍّ زوال النعمة عن الآخرين .. و السخط يدخل هذه الأشياء في قلب صاحبه ..
8ــ الرضا يجعلك لا تشكّ في قضاء الله و قدره و حكمته و علمه .. فتكون مستسلماً لأمره معتقداً أنه حكيمٌ مهما حصل .. لكن الإنسان الساخط يشكّ
و يوسوس له الشيطان ما الحكمة هنا و هنا ؟؟.. !!
و لذلك ( الرضا و اليقين ) أخوان مصطحبان ..
و ( السخط و الشكّ ) توأمان متلاصقان .. !!
• إذا استطعتَ أن تعمل الرضا مع اليقين فافعل ، فإن لم تستطع فإن في الصبر خيراً كثيراً ..
9ــ من أهم ثمرات الرضا : أنه يثمر الشكر . . .
فصاحب السخط لا يشكر .. فهو يشعر أنه مغبونٌ و حقّه منقوصٌ و حظّه مبخوسٌ .. !! لأنه يرى أنه لا نعمة له أصلاً ..!!
السخط نتيجة كفران المنعم و النعم ..!!!
الرضا نتيجة شكران المنعم و النعم ..!!!
10ــ الرضا يجعل الإنسان لا يقول إلا ما يرضي الرب ..
السخط يجعل الإنسان يتكلّم بما فيه اعتراضٌ على الرب ، و ربما يكون فيه قدحٌ في الرب عز و جل ..
صاحب الرضا متجرّدٌ عن الهوى .. و صاحب السخط متّبعٌ للهوى ..
و لا يجتمع الرضا و اتباع الهوى ، لذلك الرضا بالله و عن الله يطرد الهوى ..
صاحب الرضا و اقفٌ مع اختيار الله ..
يحسّ أن عنده كنزٌ إذا رضي الله عنه أكبر من الجنة ..
لأن الله عندما ذكر نعيم الجنة قال : (( و رضوانٌ من الله أكبر )) ..
رضا الله إذا حصل هو أكبر من الجنة و ما فيها ..
و الرضا صفة الله و الجنة مخلوقةٌ .. و صفة الله أكبر من مخلوقاته كلها ..
(( وعد الله المؤمنين و المؤمنات جناتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها و مساكنَ طيبةً في جناتِ عدْنٍ و رضوانٌ من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم ))..
رضا الله أكبر من الجنة ..!!!
11ــ الرضا يخلّص العبد من سخط الناس .. لأن الله إذا رضي عن العبد أرضى عنه الناس .. و العبد إذا سعى في مرضاة الله لا يبالي بكلام الناس ..
أما المشكلة إذا سعى في مرضاة الناس فسيجد نفسه متعباً ؛ لأنه لن يستطيع إرضاءهم فيعيش في شقاءٍ .. أما من يسعى لرضا الله فلا يحسب لكلام الناس أي حسابٍ و لن يتعبَ نفسياً .. و لو وصل إليه كلام الناس فلن يؤذيَه نفسياً و لن يبالي مادام الله راضياً عنه ..
12ــ الله يعطي الراضي عنه أشياءَ لم يسألها ، و لا تكون عطايا الله نتيجة الدعاء فقط مادام في مصلحته ..
13ـ الرضا يفرّغ قلب العبد للعبادة .. فهو في صلاته خالٍ قلبُه من الوساوس .. في الطاعة غير مشتّت الذهن .. فيستفيد من العبادة ..الرضا يركّز و يصفّي الذهن فينتفع صاحبه بالعبادة ..
14ــ الرضا له شأنٌ عجيبٌ مع بقية أعمال القلوب الصالحة ، فأجره لا ينقطع و ليس له حدٌّ بخلاف أعمال الجوارح ، فأجرها له حدٌّ تنتهي بمدّةٍ معينةٍ .. فعمل الجوارح محدودٌ .. لكن عمل القلب غير محدودٍ ..
فأعمال الجوارح تتضاعف على حدٍّ معلومٍ محسوبٍ .. أما أعمال القلوب فلا ينتهي تضعيفها و إن غابت عن بال صاحبها .. كيف ؟؟!!
إنسانٌ راضٍ يفكّر بذهنه و قلبه أنه راضٍ عن الله و عن قضائه ، عرضت له مسألةٌ حسابيّةٌ فانشغل ذهنه بها .. العلماء يقولون : أجر الرضا لا ينقطع و إن شُغِل الذهن بشيءٍ ثانٍ ؛ لأن أصله موجودٌ و لو انشغل القلب بشيءٍ ثانٍ الآن ..
إنسانٌ يخاف الله ، أحياناً يحصل له بكاءٌ و وجلٌ نتيجة هذا الخوف ، لو انشغل باله مع ولده يضمّد جراح ولده و نسي موضوع التأمل في الخوف و ما يوجب البكاء و الخشية فلازال أجره على الخوف مستمرّاً ؛ لأنه عملٌ قلبيٌّ مركوزٌ في الداخل لم ينتهِ أجره بل هو مستمرٌّ .. و هذا من عجائب أعمال القلوب . . .
و هذا يمكن أن يوضِّح لماذا أجر أعمال القلوب أكثر من أجر أعمال الجوارح ، مع أنه لابد من أعمال الجوارح طبعاً .. لأنه إذا لم يكن هناك أعمال جوارح فالقلب خرِبٌ ..
• هل الرضا يتنافى ( يتعارض ) مع الدعاء ؟!!
لا .. لسبب أن الدعاء يرضي الله و هو مما أمر الله به ..
• هل الإنسان إذا دعا أن يزيل الله عنه مصيبةً لا يكون راضياً ؟!!
الجواب : لا .. ليس هكذا .. لأن الله قال : (( ادعوني أستجب لكم ))
و قال : (( يدعون ربهم خوفاً و طمعاً )) يدعون ربهم يريدون نعماً و دفعَ نقمٍ .
الدعاء لجلبِ منفعةٍ أو دفعِ مضرّةٍ .. فلأن الله قال : ادعوني و لأن الدعاء يرضي الله ، فإن الدعاء لا يتعارض مع الرضا ..
فالمرء لو كان راضياً بالمعصية و سأل الله أن يزيل أثرها أو يعوّضه خيراً ، لم يعارضِ الدعاءُ الرضا .. لأن الله أمرنا أن نسأله الرزق فقال : (( فابتغوا عند الله الرزق )) ..
• هل الرضا يتنافى مع البكاء على الميّت ؟!!
قال شيخ الإسلام : ( البكاء على الميت على وجه الرحمة حسنٌ مستحبٌّ و ذلك لا ينافي الرضا ، بخلاف البكاء عليه لفوات حظه منه ) .. و بهذا يُعْرَف قوله صلى الله عليه و سلم لما بكى على الميت : (( إن هذه رحمةٌ جعلها الله في قلوب عباده و إنما يرحم الله من عباده الرحماء ..
و ينبغي أن نفرّق ؛ لأن النبي صلى الله عليه و سلم لما رأى ولده إبراهيم يموت بكى لماذا بكى ؟.. رحمةً أو تأسّفاً على فقد الولد !!..
و إن هذا ليس كبكاء من يبكي لحظِّه إلا لرحمة الميت ، فإن الفضيل بن عياض لما مات ابنه علي ضحك و قال : ( رأيت أن الله قد قضى ، فأحببتُ أن أرضى بما قضى الله به ) .. فحاله حالٌ حسنٌ بالنسبة لأهل الجزع ، و أما رحمة الميت مع الرضا بالقضاء و حمد الله على كل حالٍ كما قال صلى الله عليه و سلم فهذا أكمل ..
فإذا قيل : أيهما أكمل : النبي صلى الله عليه و سلم بكى رحمةً بالميت أو الذي من السلف ضحك ؟؟!!
بكاء رحمة الميت مع حمد الله و الرضا بالقضاء أكمل ، كما قال تعالى : (( ثم كان من الذين آمنوا و تواصوا بالصبر و تواصوا بالمرحمة )) فذكر الله التواصي بالصبر
و التواصي بالمرحمة ..
الناس أربعة أقسامٍ : 1ــ منهم من يكون فيه صبرٌ بقوةٍ ( ما فيه رحمة ) .
2ــ و منهم من يكون فيه رحمةٌ بقوةٍ ( ينهار ) .
3ــ و منهم من يكون فيه القسوة و الجزع ( جمع الشر من الطرفين ) .
4ـ المؤمن المحمود الذي يصبر على ما يصيبه و يرحم الناس .
و مما يجب أن يعلم أنه لا يسوغ في العقل و لا في الدين طلب رضا المخلوقين
بإطلاقٍ ؛ لوجهين : 1ــ أحدهما أن هذا غير ممكن ، كما قال الشافعي : ( رضا الناس غايةٌ لا تُدْرَك ) ، فعليك بالأمر الذي يصلحك فالزمه و دع ما سواه و لا تعانِه …
2ــ أنّنا مأمورون أن نتحرّى رضا الله و رسوله (( و الله و رسوله أحقُّ أن
يُرْضوه ))..
• هل نحن مكلّفون أن نرضي الناس كلهم ؟!!
لا ، لسنا مكلّفين ؛ لسببين : 1ــ لأنه غير ممكنٍ ،2ــ لأننا مكلّفون بإرضاء الله و ليس بإرضاء الناس ..
ذكر السلف رحمهم الله أقوالاً في الرضا :
1ــ قال أبو الدرداء رضي الله عنه : ( إن الله إذا قضى قضاءً أحبَّ أن يُرضى به من قِبَل العباد ) ..
2ــ قال ابن مسعود رضي الله عنه : ( إن الله بقسطه و عدله جعل الرَّوح و الفرح في اليقين و الرضا و جعل الهمّ و الحزن في الشكّ ) ..
3ــ قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله : ( أصبحتُ و ما لي سرورٌ إلا في مواضع القضاء و القدر ) .
فينعكس هذا على نفسه انشراحاً و طمأنينةً ، و من وصل إلى هذه الدرجة كان عيشه كله في نعيمٍ و سرورٍ (( من عمل صالحاً من ذكرٍ أو أنثى و هو مؤمنٌ فلنحيينّه حياةً طيبةً )) ..
4ــ قال بعض السلف : ( الحياة الطيبة هي الرضا و القناعة ) ..
5ــ قال عبد الواحد بن زيدٍ رحمه الله : ( الرضا باب الله الأعظم و جنة الدنيا
و مُستراح العابدين ) .. و ربما رضي المبتلى حتى لم يَعُدْ يشعر بالألم ..
عذابه فيك عذبُ * * * و بُعْدُه نَيْلُ قُرْبِ ..!
6ــ و كذلك قال عمر بن الخطاب لأبي موسى رضي الله عنهما : ( أما بعد : فإن الخير كله في الرضا ، فإن استطعتَ أن ترضى و إلا فاصبر) .. هذا مما تقدّم أن الرضا منزلةٌ أعلى من الصبر ..
7ــ و قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما : ( إذا تُوُفِّي العبد المؤمن أرسل الله إليه مَلَكين و تحفةً من الجنة ، فيقال : اخرجي أيتها النفس المطمئنة إلى رَوْحٍ و ريحانٍ و ربٍّ عنكِ راضٍ ) ..
8ــ و قال ميمون بن مهران رحمه الله : ( من لم يرضَ بالقضاء فليس لحمقه دواءٌ )) ..
9ــ و نقل عبد الله بن المبارك رحمه الله عبارة : ( يا بنيّ إنما تستدلّ على تقوى الرجل بثلاثة أشياءٍ : لحُسْن توكله على الله فيما نابَه ، و لحُسْن رضاه فيما آتاه ، و لحُسْن زهده فيما فاته ) ..
منزلة الرضا هي التي تثمر محبة الله و النجاة من النار و الفوز بالجنة و رضوان الله و حُسْن ظنّ العبد بربه و النفس المطمئنّة و الحياة الطيبة ..
و الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات و صلى الله على نبينا محمد و على آله و صحبه و سلم تسليماً كثيراً ...














سلسلة أعمال القلوب


للشيخ محمد بن صالح المنجّد


















الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. وبعد..
فإن الله جعل الصبر جواداً لا يكبو، وصارماً لا ينبو، وجنداً لا يُهزم، وحصناً حصيناً لا يُهدم،وهو مطيّة لا يضل راكبها فهو والنصر أخوان شقيقان،فالنصر مع الصبر، وهو أنصر لصاحبه من الرجال بلا عدّة ولا عدد، ومحله من الظفر محل الرأس من الجسد، وهو سبيل النجاح والفلاح، وهو فضيلة يحتاج إليه الإنسان في دينه ودنياه، فحال الإنسان إما بين صبر على أمر يجب عليه امتثاله وتنفيذه ، ونهي يجب عليه اجتنابه وتركه، وقدر يجري عليه اتفاقاً، ونعمة يجب عليه شكر المنعم عليها، وإذا كانت هذه الأحوال لا تفارقه فالصبر لازم إلى الممات، فالحياة لا تستقيم إلا بالصبر، فهو دواء المشكلات لدار الابتلاء، والصبر زاد المجاهد إذا أبطأ عنه الصبر، وزاد الداعية إذا أبطأ عنه الناس بالإجابة، وزاد العالم في زمن غربة العلم، بل هو زاد الكبير والصغير ، والرجل والمرأة ، فبالصبر يعتصمون وإليه يلجئون وبه ينطلقون.
قال الإمام أحمد – رحمه الله – في كتاب الزهد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : (( وجدنا خير عيشنا بالصبر))،إن الله وصف الصابرين بأوصاف وخصّهم بخصائص لم تكن لغيرهم،وذكر الصبر في نحو تسعين موضعاً من الكتاب الكريم، وأضاف أكثر الدرجات والخيرات إلى الصبر وجعلها ثمرة له.
إن للصابرين معيّة مع الله ، ظفروا بها بخير الدنيا والآخرة، وفازوا بها بنعمة الله الظاهرة والباطنة ، وجعل الله سبحانه الإمامة في الدين منوطة بالصبر واليقين فقال تعالى: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآيتنا يوقنون}، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : (( بالصبر واليقين ؛ تُنال الإمامة في الدين)).
تعريف الصبر
الصبر لغة: الحبس والكف، قال تعالى: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه}، يعني احبس نفسك معهم، والصبر حبس النفس عن الجزع واللسان عن التشكي والجوارح عن لطم الخدود وشق الثياب ونحوهما، ويقال صبر يصبر صبراً، وصبَر نفسه.
والصبر في الاصطلاح الشرعي: حبس النفس على فعل شيء أراده الله أو عن فعل شيء نهى الله عنه فهو صبر على شيء أمر به الله وصبر عن شيء نهى الله عنه ، جعل الله فيه الأجر العظيم لمن أراد به وجهه، وكافأ أهل الجنة لأنهم صبروا ابتغاء وجه ربهم ، والصبر فيه معنى المنع والشدة والضنّ، و تصبّر رجل يعني تكلّف الصبر وجاهد نفسه عليه وحمل نفسه على هذا الخلق، وصبّرها إذا حملها على الصبر وهو ثبات على الدين إذا جاء باعث الشهوات ، وهو ثبات على الكتاب والسنة ، لأن من أخذ بهما فقد صبر على المصائب وصبر على العبادات وصبر على اجتناب المحرمات ، فهذه أنواع الصبر الثلاثة إذاً:
1- صبر على طاعة الله.
2- صبر عن معصية الله.
3- صبر على أقدار الله المؤلمة.
هذا الصبر علّق القرآن الفلاح عليه فقال الله سبحانه وتعالى: { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا واتقوا الله لعلكم تفلحون}، فعلّق الفلاح بمجموع هذه الأمور ،ونهى عن ما يضاد الصبر فقال : {فاصبر كما صبر أولو العزم من الرُسل ولا تستعجل لهم }، كما قال: {ولا تهنوا ولا تحزنوا}، وكذلك فإنه سبحانه وتعالى أخبر عن مضاعفة الأجر للصابرين : { أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا}، وإذا كانت الأعمال لها أجر معلوم محدود فإن الصبر أجره لا حد له ، قال تعالى: {إنما يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب}، قال سليمان بن القاسم:كل عمل يعرف ثوابه إلا الصبر لأجل هذه الآية{إنما يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب}، قال : كالماء المنهمر، وعلق الله الإمامة في الدين على الصبر وعلى اليقين كما مرّ في الآية ،وجعل الله الظفر بمعية الصبر فقال: { إن الله مع الصابرين}، وجعل للصابرين أموراً ثلاثة لم يجعلها لغيرهم، وهي الصلاة منه والرحمة والهداية{وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون* أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون}.
وجعل الصبر سبحانه وتعالى عوناً وعدة وأمر بالاستعانة به، فقال :{واستعينوا بالصبر والصلاة }، فمن لا صبر له؛ لا عون له، وعلّق النصر على الصبر والتقوى فقال تعالى: {بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين}، وقال صلى الله عليه وسلم : (( واعلم أن النصر مع الصبر))،وجعل سبحانه الصبر والتقوى جنة عظيمة من كيد العدو ومكره فقال :{ وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً}، وأخبر أن ملائكته تسلّم في الجنة على الصابرين فقال: {سلامٌ عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار}، وجعل الله الصبر منزلة فوق منزلة المعاقِب لمن عاقبه بمثل العقوبة فهو أفضل وأكثر أجراً فقال: { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خيرٌ للصابرين}، فتأمل هذا التأكيد (لئن) اللام ولامٌ أخرى للتأكيد(لهو).
ورتب المغفرة والأجر الكبير على الصبر مع العمل الصالح فقال :{إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير}، وجعل الصبر على المصائب من عزم الأمور وهذه مرتبة لا ينالها أي أحد فقال عز وجل :{ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور}، وأوصى لقمان الرجل الصالح الحكيم ولده بأن يصبر على ما أصابه في سبيل الله :{يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور}.
ووعد الله المؤمنين بالنصر والظفر، وهي كلمته التي سبقت لهم نالوها بالصبر فقال تعالى: {وتمّت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون}.
وعلّق تعالى محبته بالصبر ، وجعلها لأهل الصبر فقال: {وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين}، وأخبر عن خصال من الخير لا يلقاها إلا الصابرون فقال تعالى في أهل العلم الذين علموا قومهم المفتونين بقارون : {ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون}، وعند الدفع بالتي هي أحسن{ وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم}، وأخبر أنه لا ينتفع بآياته ولا يستفيد منها إلا صاحب الصبر المكثر منه فأتى به بصيغة المبالغة في قوله تعالى :{ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبّار شكور}، وفي سورة لقمان قال: {ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله ليريكم من آياته إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور}، وبعد قصة سبأ قال:{فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور}، وفي ذكر النعمة بالسفن على العباد تنقل أنفسهم وبضائعهم قال: {ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور}، فهذه أربع مواضع في القرآن الكريم تدل على أنه لا ينتفع بالآيات إلا أهل الصبر والشكر، الدين كله صبر وشكر، الإيمان نصفان صبر وشكر، حياة المسلم كلها صبر وشكر،ماذا يوجد في الطاعات والعبادات والتقرب إلى الله غير الصبر والشكر..؟‍!
وأثنى الله على عبده أيوب بأحسن الثناء لأنه صبر فقال: {إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أوّاب}، فمدحه بقوله نعم العبد لأنه صبر، وحكم الله بالخسران حكماً عاماً على من لم يكن من أهل الصبر فقال: {والعصر*إن الإنسان لفي خسر*إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}، وخص الله أهل الميمنة( أصحاب اليمين) بأنهم أهل الصبر والمرحمة فقال تعالى: {ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة}، وقرن الصبر بأركان الإسلام ومقامات الإيمان فقرنه بالصلاة فقال: {واستعينوا بالصبر والصلاة}، وقرنه بالأعمال الصالحة فقال: { إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات}، وقرنه بالتقوى فقال : {إنه من يتقِ ويصبر }، وقرنه بالتواصي بالحق فقال: { وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}، وقرنه بالرحمة فقال: { وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة}، وقرنه باليقين فقال: { لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون}، وقرنه بالصدق فقال: { والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات}، فنعم المنزلة منزلة الصبر ونعم الخلق خلق الصبر ونعم أهله أهل الصبر ، فالصبر طريق الجنة: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب}.
هذا الصبر العناية به في القرآن الكريم كبيرة جداً دليلاً على أهميته، دليلاً على أنه خلق عظيم:
لا تيأسنّ وإن طالت مطالبة
إذا استعنت بصبر أن ترى الفرج
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته
ومدمن القرع للأبواب أن يلج
وقل من جد في أمر يحاوله
واستصحب الصـبر إلا فاز بالظفر
والصبر لدخول الجنة وسبب النجاة من النار، فالجنة حفت بالمكاره، والنار حفت بالشهوات، فكيف تدخل الجنة بدون صبر على المكاره؟ ، وكيف تقي نفسك النار بدون صبر عن الشهوات؟، وقد نبّه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على المعنى اللطيف في هذا الحديث، حفت الجنة بالمكاره؛ علمنا أنه لا طريق للجنة إلا عبر المكاره، لأنه قال حُفّت، من جميع الجهات، فإذا ما ركبت المكاره لا تدخل الجنة، والمكاره هي ما تكرهه النفس من المجاهدة اللازمة لأداء العبادات( صلاة الفجر – الوضوء في البرد- الصبر على المصائب- الجهاد ....)،فلا يمكن دخول الجنة إلا باختراق المكاره، ولا يمكن اختراقها إلا بالصبر، وأما النار فإنها حفت بالشهوات، ولا يمكن منع النفس من الدخول في النار إلا إذا صبر عن المعاصي وامتنع عن المعصية وحبس نفسه عن ذلك فهذه إذاً فضائل هذا الخلق الكريم.
ما حكم الصبر؟
أصل الصبر واجب، الصبر من حيث الجملة واجب، والله أمر به { واستعينوا بالصبر والصلاة}{اصبروا وصابروا}، ونهى عن ضده{ولا تستعجل لهم}{فلا تولوهم الأدبار}{ولا تبطلوا أعمالكم}، ورتب عليه خيري الدنيا والآخرة، لكن عندما نأتي إلى التفصيل فالصبر منه ما هو صبر واجب، يأثم الإنسان إذا لم يصبر ومنه ما هو صبر مستحب فهو واجب في الواجبات و واجب عن المحرمات و مستحب عن المكروهات و إذا صبر عن المستحب ولم يفعله فصبره مكروه ، ومما يدل علىأن الصبر قد يكون لازماً قول الله تعالى: {ولئن صبرتم لهو خير للصابرين}،فهذا يدل على أن الصبر قد لا يكون لازماً كقوله : {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين}، فما حكم الصبر هنا ؟، أنت مخيّر بين أن تعاقب من عاقبك؟، ما الحكم الشرعي؟،يجوز لك القصاص فتنتقم منه بمثل ما ظلمك، ما حكم الصبر وعدم الانتقام؟، مستحب ، فإذا ً لو قلت ما حكم الصبر على صلاة الفجر؟ ، واجب، ما حكم الصبر عند المصيبة بمنع النفس عن النياحة؟ واجب، ما حكم الصبر عن الانتقام ممن أساء إليك بمثل ما أساء؟ مستحب..
فالصبر إذاً منه ما يكون واجباً ومنه ما يكون مستحباً والصبر جاء في صيغة المفاعلة في القرآن فقال { وصابروا}، وهذه عادة ما تكون إلا بين طرفين {وصابروا}، فمعنى ذلك أن هناك مغالبات بين المسلم والعدو، وأننا لابد أن نصابر أنفسنا على باطلهم وعلى جهادهم وعلى مقاتلتهم ومرابطتنا في الثغور وثباتنا عليها حتى لا ينفذوا إلينا من هذه الجهات فهذا صبر مهم جداً ..
الصبر نوعان :
1- بدني .
2- نفسي.
وكل منهما قسمان : اختياري واضطراري، فصارت القسمة أربعة..
1- بدني اختياري: تعاطي الأعمال الشاقة.
2- بدني اضطراري: الصبر على ألم الضرب، لأنه يضرب وماله حيلة إلا الصبر.
3- نفسي اختياري: صبر النفس عن فعل مالا يحسن شرعاً، مكروه مثلاً.
4- نفسي اضطراري:صبر النفس عن فقد المحبوب الذي حيل بينها وبينه بحيث لو لم تصبر هذا الصبر لوقعت في الجزع المحرم أو النياحة أو لطم الخدود أو شق الجيوب أو قص وحلق الشعور ونحو ذلك.
والبهائم تشارك الإنسان في النوعين الاضطراريين ولكن الصبر الاختياري هو الذي يميز الإنسان عن البهيمة، فقال رجل من أهل الحكمة: (( ما غلبني رجل كما غلبني شاب من مرو، قال لي مرة ما الصبر، قلت : إن وجدنا أكلنا وإن فقدنا صبرنا، قال : هذا ما تفعله كلاب مرو عندنا!، قلت فما الصبر عندكم؟ قال: إن فقدنا صبرنا وإن وجدنا آثرنا وأعطينا لغيرنا))، فإذاً هناك صبر تشارك فيه البهائم الإنسان ولكن هناك صبر يتفوق به المسلم الإنسان على البهيمة والدابة ، وقد تجد من الكفار من يصبر على المصائب ويتجلد ولا ينهار ولكن لا يرجو من وراء ذلك جزاء من عند ربه ولا أجراً يوم القيامة..
وكذلك فإن الصبر متعلق بالتكليف لأن الله ابتلى العباد بواجبات لابد أن يفعلوها ومحرمات لابد أن يتركوها، وأقدار لابد أن يصبروا عليها،فلا يقعوا في الجزع والتسخط و شكوى الخالق إلى المخلوقين.
وقد ورد الصبر في السنة أيضاً في مواضع متعددة:
1- بشر النبي صلى الله عليه وسلم الذي يصبر على فقد عينيه بالجنة : ((إن الله تعالى قال إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه ثم صبر عوضته منهما الجنة)) [رواه البخاري].
2- (( ومال عبد مؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيّه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة)).
3- لما مرضت الأمة السوداء بالصرع جاءت تشتكي للنبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إني أُصرع وإني أتكشف فادعُ الله لي، قال : (( إن شئتِ صبرتي ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيكِ)) فقالت: أصبر ولكن ادع الله لي ألا أتكشف. فدعا لها فكانت تصرع ولا تتكشف. [متفق عليه].
4- ورد في السنة ما يفيد أن الصبر خلق يمكن تحصيله، فهناك أناس جبلهم الله على الصبر وبعضهم جبله على قليل منه، فلو كان عند المرء نقص في هذا العمل من أعمال القلوب فيمكن تحصيله بالمران والرياضة النفسية والتدريب عليه والمجاهدة، فهو شيء ممكن اكتسابه وليس شيئاً فطرياً فقط لا يمكن الزيادة عليه، والدليل على أن الصبر خلق مكتسب وليس خلق فطري فقط أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( ومن يتصبّر يصبّره الله))، فقد يكون إنسان جزع بأصل طبعه لكن لما علم فضل الصبر وأجره وأهميته ومكانته في الدين قرر ألا يمر بحادث وموقف في حياته إلا ويستعمل الصبر ويجاهد نفسه عليه ويجبرها عليه حتى تصبح صبّارة.
5- بينت السنة أن الصبر للمؤمن خير عظيم، إذا أصابته ضراء يكون الخير له.
6- بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن الصبر ضياء ، كما جاء في حديث مسلم فقال: ((الصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء والقرآن حجة لك أو عليك)).
7- لما مر النبي صلى الله عليه وسلم عند امرأة تبكي عند قبر فأراد أن يعظها فقال لها : (( اتقي الله واصبري)) قالت: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه.فلما مضى صلى الله عليه وسلم لم يشأ أن يجادل المرأة في هذه الحالة، وهذا هو الموقف الصحيح للداعية في مثل هذا الحال ، فلما مضى صلى الله عليه وسلم قيل لها إنه النبي صلى الله عليه وسلم فأخذها مثل الموت لأنه ردت عليه هذا الرد وهو نبي الله صلى الله عليه وسلم فأتت بابه لتعتذر فلم تجد عنده بوابين ولا حرس من تواضعه فقالت معتذرة : لم أعرفك. فقال: (( إنما الصبر عند الصدمة الأولى)).[رواه البخاري].
8- كذلك لما مات أبو سلمة ، ماذا تقول أم سلمة وزوجها بهذه المكانة الكبيرة في نفسها، قالت ما تعلمته سابقاً: ((إنا لله وإنا إليه راجعون ، اللهم آجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها))، ولما مات زوجها وجاءت لتقول العبارة فقالت أي المسلمين خير من أبي سلمة؟بعدما رأت من حسن معشره وطيب خصاله،ولأنها مؤمنة قالت ما تعلمته، قالت: فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقد خطبها وتزوجها .
9- وإذا صبر العبد على فقد الولد، يقول صلى الله عليه وسلم : (( إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته قبضتم ولد عبدي فيقولون نعم، قال قبضتم ثمرة فؤاده فيقولون نعم، فيقول ماذا قال عبدي، فيقولون حمدك واسترجع، فقال: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد)). فلا يقبض لمؤمن صفي من أهل الأرض فيصبر ويحتسب إلا وكان له ثواب إلا الجنة.
10- كذلك فالناس يبتلون على حسب دينهم وعلى حسب صبرهم (( أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان دينه صلباً وعنده صبر قوي زيد له في البلاء ليزداد أجراً)).يوم القيامة يود أهل العافية عندما يعطى أهل البلاء الثواب ويقسم عليهم ، الذين صبروا في الدنيا،يتمنون لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بمقاريض..![الحديث في الترمذي وحسنه الألباني].
11- والنبي صلى الله عليه وسلم مما ورد في سنته أيضاً وعلّمنا إياه تمهيد نفسي للمواجهة : (( إن من ورائكم أيام الصبر للمتمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليه أجر خمسين منكم)). أيام الصبر هي أيا م الابتلاء في الدين والشهوات المستعرة والشبهات المستحكمة ومع ذلك المرء صابر لدينه. فسماها أيام الصبر لأنه لا يستعمل فيها إلا الصبر ولا حلّ إلا الصبر. المؤمنون في مكة ابتلوا فيأتي الصحابي فيأتي الصحابي يقول للنبي صلى الله عليه وسلم ادع الله لنا ، ألا تستنصر لنا؟، فصبرهم صلى الله عليه وسلم بأنه كان من قبلهم كان الرجل يُحفر له في الأرض فيجاء بالمئشار فيوضع على رأسه فيشق اثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه وعصبه ما يصده ذلك عن دينه. فهناك مواقف والصبر هو القائد وهو الملاذ والحصن الحصين ، من دخله عصم..
الناس في الصبر أنواع وهذا تقسيم شيخ الإسلام ابن تيمية لأنه سبر نفوس الناس حسب ما رأى من الدين:
1- أهل الصبر والتقوى، وهم الذين أنعم الله عليهم من أهل السعادة في الدنيا والآخرة ، صبروا على طاعته وصبروا على ترك محارمه.
2- ناس عندهم تقوى بلا صبر، فقد يكون هناك رجل عابد زاهد قوام صوام متصدق منفق ذاكر قانت لكن إذا نزلت به المصيبة ينهار، فعنده تقوى لكن إذا نزلت به مصيبة انهار. يقول ابن الجوزي: رأيت كبيراً قارب الثمانين كان يحافظ على الجماعة فمات ولد لابنته فقال ما ينبغي لأحد أن يدعو فإنه لا يستجيب. فإذاً من الناس من عنده عبادة لكن لا يصبر ولا يتجلد ولا يقاوم عند المصيبة فينهار. بل إن أحد هؤلاء قال: عندي كذا أولاد لا أخشى عليهم إلا منه!- تعالى الله انظر إلى الكفر إذا وصل إلى درجات في هذا الباب ، سوء ظنه بالله، ماذا تنفع الصلاة وهذه عقيدته التي في قلبه؟ {قل من يكلأكم بالليل والنهار له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله}-. إذاً الذي ليس عنده صبر لا تنفعه عبادته.
3- ناس لديهم صبر بلا تقوى. مثل الفجار لكنهم جلدين يصبرون على ما يصيبهم ككثير من اللصوص وقطاع الطرق يصبرون على الآلام والمشاق لنيل الحرام، وكذلك طلاب الرياسة والعلو ، يصبرون على أنواع من الأذى لا يصبر عليها أكثر الناس.فهو من أجل أن يصل إلى هدفه يضيع صلوات ويأكل حرام ولا يبالي فعنده صبر بلا تقوى وغالب هؤلاء لا يرجون من الله جزاء على صبرهم، فالصبر لديهم خلق مفطورين عليه. ويوجد من الكفار من يتجلّد عند المصيبة فقد جاء مدح الروم في حديث عمرو بن العاص: (( أسرع الناس إفاقة بعد مصيبة))، تقع عليهم الكارثة فيستدركونها بسرعة، ومن تأمل ما حدث لهم وهم النصارى بعد الحرب العالمية الأولى والثانية، كيف تهدمت بلادهم فما أسرع ما أعادوا بنائها و أعادوا مسيرة الاقتصاد و الإنتاج والزراعة والصناعة وقد مات منهم أكثر من 40 مليون .قال: وكذلك أهل المحبة للصور المحرمة من العشق، يصبرون على ما يهوونه من المحرمات من أنواع الأذى، فربما هذا المعشوق يجعل العاشق يتعذب من أجله ويشتغل لأجله ويحاول إرضائه بشتى الطرق ، فعنده صبر ولكن بلا تقوى وهكذا..،وقد يصبر الرجل على ما يصيبه من مصائب كالمرض والفقر ولا يكون فيه تقوى إذا قدر ، إذا قدر صار جباراً شقياً.
4- وهو شر الأقسام، لا يتقون إذا قدروا ولا يصبرون إذا ابتلوا {إن الإنسان خلق هلوعاً إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا}.
مراتب الصبر
والصبر مراتب فالصبر على طاعة الله أعلى منزلة من الصبر عن المعاصي والصبر عن المعاصي أعلى منزلة من الصبر على الأقدار. فالصبر على الواجبات أعلى أنواع الصبر لأن جنس فعل الواجبات أعلى درجة عند الله من جنس ترك المحرمات ، وأجر ترك المحرمات أكبر من أجر الصبر على المصائب ، لأن الصبر على الواجب والصبر على ترك الحرام عملية اختيارية، لكن لما نزلت به المصيبة ، شيء بدون اختياره، ليس له إلا كف النفس والصبر. فقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن يوسف عليه السلام: " كان صبر يوسف عن مطاوعة امرأة العزيز على شأنها الذي دعته إليه من الحرام أكمل من صبره على إلقاء أخوته له في الجبّ"، فصبره على الفاحشة أكمل وأعظم وأكثر أجراً من صبره على السجن وإلقاء أخوته له لأن الأول فيه شيءاختياري وصبره عليها صبر رضا ومحاربة للنفس لا سيما مع وجود الأسباب القوية المزينة للحرام فكان شاباً أعزباً وغريباً عند البلد و عبداً مملوكاً والمرأة جميلة وصاحبة منصب وهي التي دعته فسقطت الحواجز النفسية ثم استعانت عليه بكيد النسوة وهددته بالسجن ، ثم إن زوجها ليست عنده غيرة {يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك}، وغُلّقت الأبواب وغاب الرقيب، فصار داعي الزنا قوي جداً جداً ولكنه صبر عليه الصلاة و السلام،أما الأمور الأخرى من السجن وإلقاء أخوته له في الجبّ فجرت عليه بغير اختياره ولا كسب له فيها.
مجالات الصبر
1- الصبر على بلاء الدنيا {لقد خلقنا الإنسان في كبد} مشقة وعناء وبلاء وفتن، والله تعالى قال:{ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين}.
2- الصبر على مشتهيات النفس {يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله } ، ولذلك قال بعض السلف: " ابتلينا بالضراء فصبرنا وابتلينا بالسراء فلم نصبر..!".وقالوا: " البلاء يصبر عليه المؤمن والعافية لا يصبر عليها إلا صدّيق". والصبر على مشتهيات النفس لابدّ أن يكون من وجوه أربعة كما قال ابن القيم رحمه الله :
1- أن لا يركن إليها ولا يغترّ بها.
2- أن لا ينهمك في نيلها ويبالغ في استقصائها.
3- أن يصبر على أداء حق الله فيها.
4- أن لا يصرفها في حرام.
3- الصبر عن التطلع إلى ما بيد الآخرين، وعن الاغترار بما ينعمون به من مال وبنين، فبعض قوم قارون ما صبروا فقالوا: {ياليت لنا مثل ما أوتي قارون} ، والله تعالى قال: {أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون}، {ولا تمدَّن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه}، { إنما أعطيناهم لنفتنهم ورزق ربك خيرٌ وأبقى}.
4- الصبر على طاعة الله، وهذا أعظم أنواع الصبر وأشده على النفوس{ فاعبده واصطبر لعبادته}، اصطبر أكمل وأبلغ من اصبر فالزيادة في المبنى تدل على الزيادة في المعنى {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها} على الصلاة وعلى أمر الزوجة بالصلاة، والصبر على الطاعة له ثلاث أحوال:
‌أ- قبل الطاعة بتصحيح النية وطرد شوائب الرياء .
‌ب- حال الطاعة أن لا تغفل عن الله فيها ولا تتكاسل عن أدائها وتراعي واجباتها وأركانها والخشوع في الصلاة.
‌ج- بعد الفراغ منها بأن لا تفشي ما عملت وتُعجَب به وتُسَمّع به في المجالس{لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى}، {ولا تبطلوا أعمالكم}.
5- الصبر على مشاق الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى فإنه غير خافٍ على الدعاة حال الناس اليوم من البعد عن الدين و البعد هذا يستلزم دعوة كبيرة وإنكاراً للمنكرات وصدع بالحق ، عمر بن عبد العزيز لما استشعر المسؤولية الكبيرة في تغيير الانحرافات المتراكمة من سنوات طويلة في العهود السابقة قال : "إني أعاجل أمراً لا يعين عليه إلا الله"..!.فنوح عليه السلام صبر هذا الصبر العظيم في الدعوة 950 سنة ، ألف سنة إلا خمسين عاماً على جميع أنواع الابتلاءات {دعوت قومي ليلاً ونهاراً فلم يزدهم دعائي إلا فراراً }، وهكذا سراً وجهاراً ماترك فرصة إلا قام بالدعوة، ثم الدعوة ليست عملية سهلة لأن الإنسان يجد كيد من الأعداء وحسد حتى من الناس الذين يظنهم معهم والقريبين منه على ما آتاه الله من فضله فيتمنون أن يوقع به ويضر ويتوقف ولذلك لابد للداعية أن يصبر في الداخل والخارج، القريبين والبعيدين، مع الناس الذين هم ضده علناً أو الذين يضمرون له الشر في داخل أنفسهم، {لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعنّ من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذىً كثيراً } ، والحل ..{وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور}، { واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً}، الرسل كان من رأس مالهم وبضاعتهم الصبر على إيذاء أقوامهم بل أكّدوا على ذلك وقالت الرسل لأقوامهم: { ولنصبرنّ على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون}، {ولقد كُذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا }، وهكذا يصبر الداعية على طول الطريق وعقباته وبطء النصر وتأخره ، {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب}{ حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين}.
6- إن هناك صبراً حين البأس وفي الحرب وعند لقاء العدو والتحام الصفين فيكون الصبر شرط للنصر والفرار كبيرة ولذلك أوجب الله الثبات{إذا لقيتم فئة فاثبتوا} وحذر من الفرار وتولي الأدبار وعندما تضطرب المعركة وينفرط العقد فيكون الصبر أشد {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين}، {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفئن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً}، وحدثنا الله عن الثلة المؤمنة البقية الباقية بعد عمليات الترشيح المستمرة في قصة طالوت، {إن الله مبتليكم بنهر}وعصوه من قبل ومن بعد وما بقي معه إلا قليل، {فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه}، حتى الذين جاوزا النهر كان بعضهم استسلاميين فقالوا: {لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده}، {قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله}، لذلك كان المسلمون صُبُر عند اللقاء، يصبرون وكانوا يتناقلون بينهم عبارة " إنما النصر صبرُ ساعة"، والمراغمة والمدافعة الآن بين فريقين، الذي يصبر أكثر هو الذي ينتصر، فأوصى الله عباده بالصبر على ما يلاقونه من ضرر الناس وأن لا يقابلوا السيئة بمثلها { ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن}، فالصبر يكون أحياناً للمعلم على أذى التلميذ، للداعية على أذى المدعوّ، للمربي على أذى المتربي وهكذا.. ، ولذلك يقول الخضر لموسى:{إنك لن تستطيع معي صبراً*وكيف تصبر على مالم تحط به خبرا}، فتعهّد وقال:{ستجدني إن شاء الله صابراً}، تعهد ولكنه لم يستطع أن يصبر في تلك المواقف، فإذاً الصبر له مواقف ومواطن وحالات ومجالات ينبغي علينا أن نكون من الصابرين لله فيها...
ماهي الأسباب المعينة على الصبر؟
1- المعرفة بطبيعة الحياة الدنيا وما جُبِلت عليه من المشقة والعناء وأن الله خلق الإنسان في كبد وأنه كادح إلى ربه كدحاً فملاقيه وأن الآلام والتنغيص من طبيعة هذه الدنيا والابتلاءات{ولنبلونّكم}..
جبلت على كدرٍ وأنت تريدها
صفو من الآلام والأكدار
ومكلف الأيام ضد طباعها
متقلب في الماء جذوة نار
ومن لا يعرف هذه الحقيقة سيتفاجأ بالأحداث، أما الذي يعرف طبيعة الحياة الدنيا إذا حصل له أي ابتلاء ومنغصات فإن الأمر عنده يهون.
2- الإيمان بأن الدنيا كلها ملك لله تعالى، يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، {ومابكم من نعمة فمن الله}، ولذلك الإنسان إذا حرم من شيء وابتلي يقول: {إنا لله وإنا إليه راجعون} ، لا يوجد كلمة أبلغ في علاج المصاب وأنفع له عند المصيبة من تذكير العبد نفسه بهذين الأصلين . والدنيا فانية، والعبد وأهله وماله ملك لله، والمال وأولاده جعلوا عنده عاريّة، وصاحب العارية متى ما شاء استردها، ومصير الناس العودة إلى الله سبحانه وتعالى. وأم سليم لما فقهت هذا كان لها مع أبي طلحة ذلك الموقف المشهور فلما مات ولده الذي يحبه فقالت: ( يا أبا طلحة أرأيت لو أن قوماً أعاروا أهل بيت عارية فطلبوا عاريتهم ألهم أن يمنعوهم؟)قال: لا ..إن العارية مؤداة، قالت: ( إن الله أعارنا فلاناً – ولدنا- ثم أخذه منا) فاسترجع..
3- معرفة الجزاء والثواب على هذا الصبر .. وقد تقدم ذكر شيء من هذا.. {نعم أجر العاملين الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون}، يوفون أجرهم بغير حساب..
4- الثقة بحصول الفرج، والله جعل مع كل عسر يسرين رحمة منه عزوجل {فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسراً}، العسر معرفة بأل ، و يسر نكرة ، فالعسر هو نفسه و يسر يسر ٌثانٍ، ولن يغلب عسرٌ يسرين. والله تعالى جعل اليسر مع العسر وليس بعده، ولذلك فالله ينزل المعونة على قدر البلاء، والله لا يخلف الميعاد، {فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفّنك الذين لا يوقنون}، والفجر ينبلج ولو بعد ليل طويل..
اشتدي يا أزمة تنفرجي
قد آذن ليلك بالبلج
يعقوب صبر على فقد يوسف والولد الثاني، وقال : { فصبر جميل} لا تسخّط فيه ولا جزع ، وقال: { عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً}، فبعض الناس يصبرون صبراً غير جميل، والصبر الجميل ليس فيه تشكّي للمخلوقين،{إنما أشكو بثِّي وحزني إلى الله} وليس إليكم.
5- الاستعانة بالله تعالى واللجوء إلى حماه وطلبة معونته سبحانه،قالها موسى لقومه: {إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين} ، وحاجة الصابرين إلى الاستعانة عظيمة جداً ولذلك كان التوكل جانباً للمعونة من الله { إلا الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون}.
6- الإيمان بالقضاء والقدر من أعظم ما يعين على الصبر، وأن يعلم العبد أن قضاء الله نافذ وأن يستسلم لما قضاه وقدره مما لا حيلة له به، {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها }، ثم إن العبد يعلم أن الجزع والهلع والتبرم والاعتراض والتشكّي والتضجر لا يجدي شيئاً ولا يعيد مفقوداً فلا حلّ إلا بالصبر، والعاقل يفعل في أول يوم من المصيبة ما يفعله الجاهل بعد سبعة أيام..!، أي يستسلم.
آفات في طريق الصبر
1- قضية الاستعجال {خلق الإنسان من عجل}، الإنسان يجب أن يصبر ويتأنى والثمرة تأتي ولو بعد حين..، {فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل}..لقد باءت دعوات بالفشل.. لماذا؟ .. لأن أصحابها لم يصبروا..
2- الغضب ينافي الصبر، ولذلك لما خرج يونس مغاضباً قومه ابتلاه الله بالحوت، فتعلم الصبر في بطن الحوت{ فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت}..، ولولا أنه كان من المسبّحين قبل أن يبتلعه الحوت للبث في بطنه إلى يوم يبعثون ، لذلك العبادة في وقت الرخاء تجلب الفرج في وقت الشدة، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، ولذلك لما نادى يونس في بطن الحوت؛ عرفت الملائكة صوته لأنها كانت تسمعه وهو يذكر الله في حال الرخاء..
3- اليأس أعظم عوائق الصبر، ولذلك حذر يعقوب أولاده منه {يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله}.{ ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون}، {والله معكم ولن يتركم أعمالكم}، إذاً إضاءة شمعة الأمل دواء اليأس والاستعانة بالله هي الأمل ، لأن الله لا يخيب ولا يضيع من رجاه ويأتي الفرج ولو بعد حين..
التأمل في قصص الصابرين من أعظم الأسباب المعينة على الصبر:
فهذا نوحٌ عليه السلام صبر في دعوته لقومه صبراً عظيماً دام ألف سنة إلا خمسين عاماً جاهد ودعوة، وصبر على الإيذاء والسخرية، اتهموه بالجنون والسحر والضلال وهو يقابل ذلك بالصبر حتى قالوا: {لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين}، وصبر..
إبراهيم تعرض لمحنة عظيمة ويصبر صبر الموحد الموقن بوعد الله، حتى لما ألقي في النار قال: {حسبي الله ونعم الوكيل}، حتى لما أُمِر بذبح ولده صبر وهمّ بذبح الولد ، وأخذ السكين وأضطجع الولد استسلاماً لأمر الله، والله ابتلاه بهذا الأمر فصبر.
وموسى واجه التهديد والإيذاء من قومه وقوم فرعون قبلهم، فصبر على دعوة قومين!.
والنبي صلى الله عليه وسلم قال لما تذكرأخيه موسى: { يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر}.
إبراهيم لما أُمِر بترك ولده وهو حديث عهد ولادة ، وقد كان عقيماً ، جاءه اسماعيل بعد سنوات طويلة جداً وهو شيخ كبير، وجاءه الأمر من الله اتركه وأمه في وادٍ غير ذي زرع!، مانال الخليل هذه المرتبة من شيء قليل، فمضى ولم يلتفت ولم يتحسر ولم يتردد ، حتى قالت هاجر: لمن تتركنا؟آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، فرجع للشام ورزقه الله من سارة بإسحاق ومن ورائه يعقوب.
وعيسى عانى من بني إسرائيل من التهم الباطلة، تآمروا على قتله وصلبه وصبر حتى رفعه الله إليه.
وخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم كم تعرض للأذى والاضطهاد، قالوا عنه مجنون ساحر كذاب خائن، وأشد شيء على الصادق أن يتهم بالكذب ,أشد شيء على العاقل أن يقال عنه مجنون، وأشد شيء على الأمين أن يتهم بالخيانة، وأشد شيء على المؤمن أن يقال عنه شاعر ساحر به جنّة، وهو أكمل الخلق وأصدقهم وأعقلهم ، ووضعوا الشوك وأخرجوه من بلده ، وذهب للطائف يعرض نفسه على القبائل، وأحسّ بالاضطهاد وخرج من مكة لا يدري من الهم لم يستفق إلى في قرن الثعالب، حتى تآمروا على قتله{ليُثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك}، وقتلوا بعض أصحابه وعذبوا بعضهم، وأشد شيء على النبي أن يرى أتباعه يضطهدون ويقتلون أمامه، يمر عليهم فيقول: ( صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة)، وهكذا صبر صلى الله عليه وسلم حتى أتاه اليقين من ربّه بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة حتى لما ذهب المدينة لا يُظَنّ أن مجالات الصبر قد خفّت لأنه عانى من المنافقين معاناة عظيمة، يكفي حادثة الإفك، وصبر على كيد اليهود ، ووضعوا له السم، وكانت نوبات الحمى تنتابه حتى مات في آخر نوبة منها فكان في ذلك أجله وهكذا أصحابه، بلال ، سمية،صهيب،عمار، مقداد ، أبو بكر، صهروهم في الشمس وعذبوهم..
وهذا الصحابي خبيب ، يسجن ليقتل ويصلب..
ولست أبالي حين أقتل مسلماً
على أي جنبٍ كان في الله مصرعي
المرأة التي قُتِل أبوها وأخوها وزوجها في يوم أحد فصبرت على ما حصل لها من هذه الأقدار، فماتوا في رفعة الدين ونصرة الدين وجهاد الكفار، وهكذا سار على هذا المنوال التابعون وتابعو التابعين..
عروة بن الزبير من أفاضل التابعين وأخيار التابعين، كان له ولد اسمه محمد من أحسن الناس وجهاً، دخل على الوليد في ثياب جميلة فقال الوليد:هكذا تكون فتيان قريش، ولا دعا بالبركة فقالوا أنه أصابه بالعين،خرج هذا محمد بن عروة بن الزبير من المجلس فوقع في اصطبل للدواب فلا زالت الدواب تطأه حتى مات، ثم مباشرة وقعت الآكلة(الغرغرينا)في رجل عروة وقالوا لابد من نشرها بالمنشار وقطعها حتى لا تسري لأماكن الجسد فيهلك، فنشروها فلما وصل المنشار إلى القصبة(وط الساق) وضع رأسه على الوسادة فغشي عليه ثم أفاق والعرق يتحدّر من وجهه وهو يهلل ويكبّر ويذكر الله، فأخذها وجعل يقلبها ويقبلها في يده وقال: ((أما والذي حملني عليك إنه ليعلم أنني ما مشيت بك إلى حرام ولا إلى معصية ولا إلى ما لا يرضي الله))، ثم أمر بها فغسلت وطيبت وكفنت وأمر بها أن تقدم إلى المقبرة، لما جاء من السفر بعد أن بترت رجله وفقد ولده قال لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً ، ولما قالوا: نسقيك شيئاً يزيل عقلك؟قال: إنما ابتلاني ليرى صبري، ورفض.
أبوقلابة ممن ابتلي في بدنه ودينه،وأريدعلى القضاء وهرب إلى الشام فمات بعريضة وقد ذهبت يداه ورجلاه وبصره وهو مع ذلك حامد شاكر.
أحمد بن بنصر الخزاعي من كبار علماء السلف كان قوالاً بالحق آمراً بالمعروف، نهاءً عن المنكر ،ثبت في محنة خلق القرآن، حملوه إلى سامراء فجلس مقيداً وعرض عليه الرجوع عن القول بأن القرآن كلام الله المنزل وعرض عليه القول بخلق القرآن فرفض ، وقاموا عليه بحرب نفسية وجسدية..، فيقوم القاضي عند خليفة السوء فيقول إنه حلال الدم، ووافقه من كان حاضراً، وأحمد بن أبي دؤاد قال شيخ كبير ، يتظاهر بالشفقة عليه، فقال الخليفة:ما أراه إلا مؤدياً لكفره فأخذ السيف وقال إني أحتسب خطاي إلى هذا الكافر..!، فضرب به عنقه بعد أن مدوا رأسه بحبل، ونصب رأسه بالجانب الشرقي من بغداد، يقول أحد أهل العلم جعفر بن محمد الصائغ رأيت أحمد بن نصر الخزاعي حين قُتِل قال رأسه لا إله إلا الله وهذا من كراماته رحمه الله، قال الإمام أحمد رحمه الله عنه: جاد بنفسه في سبيل الله.
والإمام أحمد نفسه كيف صبر في محنة خلق القرآن؟، حُمِل هو ومحمد بن نوح وهو شاب وليس عالماً لكن صبر مع الإمام أحمد ، فحُمِل إلى المأمون، يشاء الله أن محمد بن نوح يمرض ويوصي الإمام أحمد: أنت إمام وأنا أموت ولا أحد يأبه لي، فاصبر..، ويموت محمد في الطريق، ويؤخذ الإمام أحمد رحمه الله مقيد ، ودخل عليه بعض الناس قبل الدخول على الخليفة ( هناك أحاديث في التقية والمرء عند الشدة يمكن أن يورِّي حتى تمضي العاصفة)، قال: كيف تصنعون بحديث خبّاب؟ إنه من كان قبلكم يُنشَر أحدهم بالمنشار ثم لا يصده ذلك عن دينه فيئسوا منه وتركوه، وقال اللهم لا تريني وجه المأمون،فمات المأمون قبل أن يصل أحمد، ووصل الخليفة الذي بعده والمحنة مازالت مستمرة، فيقول له: يا أحمد إنها والله نفسك ، إنه لا يقتلك بالسيف ولكن يضربك ضرباً بعد ضرب حتى تموت ، قال ناظَر ابن أبي دؤاد، فأسكت، هاتوا شيء من القرآن أقول به، هاتوا شيء من السنة أقول به فلا يأتون بدليل، يقول الخليفة لأحمد :تعرف صالح الرشيدي؟،قال :سمعت باسمه، قال:كان مؤدبي، فسألته عن القرآن فخالفني، ولما خالفني وأصر على أن القرآن غير مخلوق أُمِرت به فوطيء وسُحِبَ حتى مات، قال: هاتوا العقابين والسياط، قال:اءتوني بغيرها، ثم قال الخليفة للجلادين : تقدموا واضربوه ، وربطوا الإمام أحمد، وكل فرد منهم يضرب سوطين و بأقوى ما عنده ويقول الخليفة للجلاد: شدّ يداً قطع الله يدك..،لينال أحمد رحمه الله أعظم العذاب بالضرب على أيديهم، ثم يقول الخليفة علامَ تقتل نفسك إني عليك لشفيق وجعل ذلك القائم على رأسه الحارس ينخسه بالسيف، وذاك يقول ويحك يا أحمد ما أجبتني ، أجبني إلى أي شيء يكون لك فيه فرج حتى أطلقك فيقول: يا أمير المؤمنين أعطني شيئاً من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يأتي الجلاد ويضرب وهكذا تستمر عملية الضرب حتى قال ذهب عقلي فأفقت والأقياد في يدي فقال لي رجل كببناك على وجهك وجعلنا فوقك حصيراً ووطئنا عليك فقال ماشعرت بذلك، أتوني بأكل فقلت لا أفطر وكان صائماً، ثم جاؤوا به والدم يسيل في ثوبه فصلى فقال أحدهم: صليت والدم يسيل في ثوبك؟ قال أحمد:صلى عمر وجرحه يثعب دماً، ثم مكث في السجن ثم خُلّي عنه بعد 28 شهراً، ثم جُعِل في الإقامة الجبرية، في بيته، وليس هناك أصعب على العالم من أن يتوقف عن نشر العلم، سئل أحدهم عن الإمام أحمد رحمه الله فقال: رجل هانت عليه نفسه في سبيل الله فبذلها كما هانت على بلال نفسه، لولا أحمد لذهب الإسلام.
فيا ضعيف العزم الطريق طويل..تعب فيه آدم.. وجاهد فيه نوح.. وألقي في النار إبراهيم.. واضطجع للذبح إسماعيل.. وشق بالمنشار زكريا وذبح الحصور يحيى وقاسى الضر أيوب وزاد على المقدار بكاء داود، واتهم بالسحر والجنون نبي الله الكريم وكسرت رباعيته وشج رأسه ووجهه وقُتِل عمر مطعوناً وذو النورين علي والحسين وسعيد بن جبير وعذب ابن المسيب ومالك..، فالشاهد أنه في النهاية لا سبيل إلا الصبر..
ولذلك يقول عمر رضي الله عنه : (( أدركنا أفضل عيشنا بالصبر))،يعني ما طابت الحياة إلا بالصبر مع مافيها من المنغصات والشدائد، فهو العمل القلبي الذي تطيب معه الحياة ولا تطيب بدونه، ولذلك ينبغي على العبد أن لا يفعل شيئاً ينافي الصبر ، مثل شكوى الخالق للمخلوق والتبرم والتضجر فإما أن يخبر الإنسان الطبيب بعلته ليداويه فلا بأس..
والأنين .. الألم .. ما يحدث من صوت من المريض المتألم..، هناك أنين استراحة وتفريح فلا يكره، وأنين شكوى فيكره ففيه تفصيله..
ومما ينافي الصبر ما يحدث من النائحات وغيرهم وحتى من الرجال الآن من لطم الرأس والخد و ضرب الوجه باليدين والكفين والنياحة.. واويلاه.. واثبوراه..
ولذلك فإن المسلم عليه أن يتقي الله سبحانه وتعالى وأن يسلك سبيل الصابرين، نسأل الله عزوجل أن يجعلنا منهم، وأن يرزقنا هذا الخلق الكريم، إنه جواد كريم..



أسئلة من درس الصبر
كيف يصبر الإنسان على غض البصر عن المحرمات؟
يصبر بأمور فمن ذلك أن لا يغشى الأماكن التي فيها هذه المنكرات،يبتعد عن الفتن ويفر منها، ثم إذا علم حلاوة غض البصر ومافيه من الأجر وما يورثه الله في قلبه من عاقبة الصبر عليه هان عليه غض البصر، ثم إذا علم مناتن الصورة في ذهنه فهو مفيد في النفرة وعدم التعلق..
زوجها يفرض عليها حضور حفلات فيها أقاربه وفيها مزامير فإذا امتنعت تعتبر عاصية له؟
نعم لكنها معصية واجبة، يجب أن تعصي زوجها لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وهناك طاعة أوجب من طاعة الزوج.
كلام المرأة في البال توك مع الرجال؟
باب فتنة عظيم، وسبق التنبيه عليه والتحذير منه، والتي تريد أن تكتب شيئاً في مكان بأسلوب شرعي مؤدب تكتب ويُعلّق أما الحوارات المباشرة فلا لأنها طريق فتنة.
إذا لم تدرس فإن أمها ستغضب عليها والدراسة فيها منكرات؟
لا طاعة لمخلوق في طاعة الخالق، فإذا كانت الدراسة مختلطة، والبنت عليها خوف وخشية من هذه الأماكن المختلطة، فإنها لا تطيع أمها ولا أباها في هذا، وتنتظر فرج الله بزوج ينقذها من المحنة التي هي فيها.
ذهبنا إلى مكة لزيارة أحد الأصدقاء،وأدوا صلاة العصر ، هل يلزم الإحرام؟
من أدى عمرة الفريضة من قبل فلا يلزمه أن يدخل مكة محرماً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة وقد دخل وعلى رأسه المغفر، مادام أدى عمرة وحج الفريضة فلا يجب عليه الإحرام ولو كان في وقت الحج.